انتخابات الجزائر.. الحراك الشعبي و"الاختيار الصعب"
تقف الجزائر اليوم أمام "الاختيار الصعب" بين إعادة انتخاب بوتفليقة أو الدخول إلى منعطف تاريخي بتغيير نظام الحكم
حالة من الترقب تعيشها الجزائر، بعد أن قدم الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة المُرشح للانتخابات الرئاسية (المقررة في 18 أبريل المقبل)، تعهدات بالدعوة إلى انتخابات رئاسية مبكرة في حال إعادة انتخابه، وهي الحالة التي تأتي كمناخ عام لما تُعاني منه الجزائر في المرحلة الراهنة من أزمة احتدمت بين الرئيس الحالي، الذي حكم البلاد لمدة عشرين عاما، ومؤيديه من جهة، وبين فئات الشعب وخصوصا الشباب من جهة أخرى.
وما أن أعلن بوتفليقة نيته الترشح للانتخابات الرئاسية، من أجل الاحتفاظ بمنصبه للفترة الخامسة على التوالي، بتأييد من الحزب الحكم، إضافة إلى بعض الأحزاب الأخرى المُشاركة في الحكم، حتى خرج الآلاف إلى الشوارع في أكثر من مدينة جزائرية ردا على ذلك، منددين بما يرون أنه "امتداد غير شرعي لحُكمه".
وفيما يبدو، فإن الوضعية التي تمر بها الجزائر من حراك شعبي مناهض لترشح الرئيس كانت السبب الرئيسي في تقديم بوتفليقة رسالته إلى الناخبين الجزائريين؛ حيث تعهد فيها بترك الحكم، وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة خلال عام، وذلك طبقا لأجندة تعتمدها الندوة الوطنية؛ تلك التي سوف تحدد "موعد الانتخابات الرئاسية المبكرة".
وبالتالي، فإن التساؤل الذي يطرح نفسه، ذلك الذي يتعلق بالاحتمالات المستقبلية لما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع على الساحة الجزائرية، سواء بالنسبة إلى احتمال إعادة انتخاب بوتفليقة لولاية خامسة أو دخول الجزائر إلى منعطف تاريخي بتغير النظام الحاكم بتأثير من الحراك الشعبي المتنامي في هذا البلد.
الحراك الشعبي
لعل الملاحَظ في الاحتجاجات الجزائرية، أنها لم تصل إلى الحالة التي بدا عليها الحراك الشعبي منذ عام 2011 في المنطقة، خاصة في مصر وتونس؛ إذ لم يطالب المحتجون الجزائريون بتغيير النظام، بل طالبوا بتغيير رأس النظام.
رغم ذلك، فإن واقع الحراك الشعبي عبر هذه الاحتجاجات، وإن كان يعبر عن مطالبة "بوتفليقة وحكومته بالرحيل"؛ فإنه في الوقت نفسه لا يتعلق بمجرد رفض الولاية الخامسة للرئيس تبعا للحالة الصحية التي يبدو عليها؛ بل يأتي نتيجة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتدهورة في البلاد، التي تزايدت بشكل سريع خلال الأشهر الأخيرة، ويكفي أن نشير في هذا المجال إلى أن نسبة البطالة تقدر بين الشباب المتعلم بما يقارب 12% في الوقت الحالي، فضلًا عن أن نسبة تقارب 10% من الشعب الجزائري تبعا لتقديرات البنك الدولي تعاني من الفقر بسبب ارتفاع معدل التضخم الذي بلغ 5.5% مع بدايات العام الماضي (2018).
فإذا أضفنا إلى ذلك، تقلب أسعار النفط العالمية، بل تراجعها، لنا أن نلاحظ مدى تأثير ذلك على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المتدهورة أصلًا في البلاد؛ لنا أن نلاحظ أيضًا كيف تراجع الاحتياطي النقدي الجزائري من 170 بليون دولار في نهاية عقد الثمانينيات إلى نحو 70 بليونا في نهاية العام الماضي، وهذه كلها أمور تُخل بتدفقات الإيرادات الحكومية، وتُهدد المشروعات الممولة من القطاع العام، مثل تطوير البنية التحتية وتوفير الرعاية الصحية؛ ناهيك عن تراجع إمكانية توفير فرص عمل للشباب.
ولعل هذا ما يوضح، لماذا كان الشباب هم المحرك الأساسي في الحراك الشعبي على الساحة الجزائرية؛ فمن أصل 42 مليونا من الجزائريين، هم عدد السكان، يُمثل الشباب نسبة تقارب 50% ما بين العشرين والخامسة والعشرين، وتزيد النسبة إلى الثلثين ما دون سن الثلاثين.
ولا عجب في ظل هذه الأوضاع، أن يواجه الرئيس بوتفليقة الذي حكم الجزائر منذ عشرين عاما، مثل هذا الحراك الشعبي، برسالته التي قال فيها: "نمت إلى مسامعي وكلي اهتمام هتافات المتظاهرين من آلاف الشباب الذين خاطبوني بشأن مصير وطننا"، مؤكدًا: "إني لمصمم، إن حباني الشعب الجزائري بثقته مجددا على الاضطلاع بالمسؤولية سألبي مطلبه الأساسي أي تغيير النظام"، ومن ثم، حملت الرسالة، إضافة إلى التعهد بـ"تغيير النظام" تعهدات أخرى تختص بـ"اعتماد إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية، من شأنها إرساء أساس النظام الجديد"، وذلك بحسب ما جاء في نص الرسالة.
تعهدات الرئيس
رغم أن الرئيس الجزائري يواجه حاليا تأثير المشكلات المجتمعية عمومًا، فضلًا عن الحراك الشعبي الرافض لإعادة ترشحه؛ فإن تراثه الوطني الذي يُشير إلى أنه أول من حارب في "حرب التحرير"، وملامح سياساته في الحكم بعد ذلك، خصوصا في المرحلة التي ارتفعت فيها أسعار النفط، في نهاية العقد الأول من القرن الـ21، كل ذلك أسهم في حشد وتأييد شرائح واسعة من السكان لصالحه.
لكن ومع تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بالتالي، الذي دفع بالحراك الشعبي إلى المقدمة خاصة مع مشاركة المناضلة الجزائرية الشهيرة جميلة بوحيرد في هذا الحراك كأحد رموز الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي، كل هذه الظروف والملابسات دفعت الرئيس إلى التعهد في حال إعادة انتخابه بعدم إنهاء ولايته والانسحاب من الحكم بعد تنظيم انتخابات رئاسية مبكرة يُحدد تاريخها إثر مؤتمر وطني.
ضمن تعهدات الرئيس أيضًا، في رسالة ترشحه، إعداد دستور جديد للبلاد يُطرح على الاستفتاء الشعبي، يُكرس "جمهورية جديدة ونظاما سياسيا جديدا"، والعمل على وضع سياسات عاجلة "كفيلة بإعادة التوزيع العادل للثروات الوطنية، والقضاء على كافة أوجه التهميش والإقصاء الاجتماعيين"، بالإضافة إلى اتخاذ إجراءات فورية لصالح الشباب الجزائري، بشكل "يُصبح فيها فاعلًا أساسيًا في الحياة العامة"، وقد كانت خاتمة هذه التعهدات تلك التي تختص بمراجعة قانون الانتخابات وإنشاء "آلية مستقلة تتولى دون سواها تنظيم الانتخابات".
بالطبع فقد شكلت هذه التعهدات "مفاجأة"، بالنسبة إلى القوى السياسية والشعب الجزائري عمومًا، هي مفاجأة، من منظور أن توقيت وظروف إعلان بوتفليقة -البالغ من العمر 81 عاما- عن تلك التعهدات، وتحديدًا فيما يتعلق بتنظيم انتخابات رئاسية مبكرة، دفعت إلى تغيير قواعد "اللعبة السياسية" في البلاد، وأصبح تمريرها مرتبطا بمدى ردة فعل الشارع الجزائري بشأنها، خصوصا الشباب منهم، من حيث إن هذا "الشارع" أصبح اليوم هو صاحب المبادرة، متجاوزا بذلك القوى السياسية التي تُمارس مفهوم المعارضة شكليا.
ومن ثم، يبدو أن الجزائر، هذا البلد صاحب "المليون شهيد"، يقف راهنًا أمام "الاختيار الصعب"، بين إعادة انتخاب بوتفليقة، ومن ثم استمرار النظام السياسي، أو الدخول إلى منعطف تاريخي بتغيير نظام الحكم؛ إذ لكل منهما ملامحه وتداعياته المستقبلية، فأيهما أقرب إلى التحقق؟.
الاختيار الصعب
قولنا الأخير هذا، حول مسألة الاختيار وتوصيفه بأنه "صعب"، بين استمرار النظام أو الدفع في اتجاه تغييره، إنما ينبني على ملامح التداعيات المستقبلية المصاحبة لكل من المشهدين الذين تقف أمامهما الجزائر في هذه المرحلة.
فمن جهة، هناك الاحتمال الذي يتعلق بإعادة انتخاب الرئيس الجزائري الحالي، وهو احتمال قابل للتحقق من خلال فوزه في الانتخابات المقبلة، إما استنادا إلى الشعبية التي لا يزال يتمتع بها بوتفليقة، وهي شعبية ليس بالقليلة، رغم الاحتجاجات المستمرة والحراك الشعبي المتنامي؛ وإما تبعا لتأثير التخوف من الفوضى المتوقعة بعد رحيله، على الناخبين الجزائريين، أو لكليهما معًا.
ولنا هنا أن نلاحظ خشية النخبة الحاكمة من خروج بوتفليقة من السلطة، ما قد يدفع إلى الانقسام وعدم الاستقرار، ولعل المثال الذي يتذكره الجزائريون، بالطبع، هو ما حدث في عام 1988؛ حيث أدت الانقسامات المتزايدة بين الأطراف المناهضة للنظام، إلى احتجاجات جماهيرية وفقدان النظام المؤقت للسلطة ثم حدوث انقلاب سياسي وحرب أهلية راح ضحيتها 200 ألف جزائري؛ وهو ما عُرِف بـ"العشرية السوداء"، ولعل ذلك يمثل أحد الأسباب المهمة لاحتمال فوز بوتفليقة في الانتخابات المقبلة.
ومن ثم فإن التداعيات المتوقعة لهذا الاحتمال تلك التي تتقاطع عندها إمكانية نشوب أزمة قومية، في ظل الاحتجاجات الراهنة، وتعالي أصوات عدد من الشخصيات الجزائرية خلال الآونة الأخيرة بالتساؤل حول ما إذا كان بوتفليقة هو من يحكم البلاد فعليا، أضف إلى ذلك، أن ما جاء في رسالة بوتفليقة من تعهدات ليس إلا "حل مؤجل" لمدة سنة كاملة، يكون على الجزائر فيها إنجاز اثنين من الاستحقاقات الرئاسية؛ بما يعني تأجيل المشكلة الرئيسة (العهدة الخامسة)، تلك التي عبر عنها الجزائريون في تظاهراتهم.
من جهة أخرى، هناك الاحتمال الذي يختص بانتخاب رئيس جديد، وهو احتمال أيضًا قابل للتحقق على الأقل من منظور أن الحراك الشعبي المتنامي في الجزائر، يشير إلى أن إعادة انتخاب بوتفليقة ليست مضمونة، ويؤكد ذلك أن خروج فئات الشعب الجزائري منددين باستمرار بوتفليقة في الحكم، تحت وطأة التدهور الاقتصادي وتردي الأوضاع المعيشية، يمكن أن تساعد المعارضة في الفوز بالانتخابات وتولي رئيس جديد مقاليد الحكم.
وهنا، لنا أن نتصور الإشكاليات التي سوف يواجهها الرئيس الجديد؛ إذ أن من سيتولى الرئاسة سيواجه وضعا اقتصاديا صعبا مليئا بالتحديات والتهديدات المستمرة الناشئة عن الشبكات الإرهابية في ليبيا ومالي؛ هذا فضلًا عن حالة الاستياء الاجتماعي بين الشباب الغاضب والعاطل عن العمل، أضف إلى ذلك، أن الفائز بانتخابات الرئاسة، حال عدم تمكن بوتفليقة من الفوز بها، سيكون خارج توافق "المؤسسة العسكرية" التي لم تنجح حتى في الاتفاق على ترشيح بديل مقنع؛ بما يعنيه ذلك من الدخول في دوامة ضغوط هذه المؤسسة من أجل ضمان مصالحها.
ومن ثم، فإن التداعيات المتوقعة لهذا الاحتمال، تلك التي تتقاطع عندها الكيفية التي يمكن بها مواجهة أزمات متزايدة، تُهدد بإضعاف البلاد نتيجة لحجم المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها الجزائر.
وفي هذا السياق، تتبدى حقيقة مفترق الطرق الذي تقف في مواجهته الجزائر؛ إنها أسابيع حاسمة ينتظرها شعبا ونظاما قبل الانتخابات الشهر المقبل، وأيا يكن من أمر الاحتمال الذي سوف يتحقق، سواء بإعادة انتخاب بوتفليقة أو أن يتولى مقاليد الحكم في البلاد رئيس جديد، فإن التداعيات المتوقعة لكل من الاحتمالين يؤكد أن على الجزائريين الاختيار، وهو بالقطع "اختيار صعب".