بعد "فيتو الاعتذار".. ما مستقبل العلاقات الجزائرية الفرنسية؟
أثار الموقف الفرنسي الرسمي "الرافض للاعتذار" عن جرائم احتلالها للجزائر طوال 132 سنة كاملة، استياء شعبياً في الجزائر، وسط صمت رسمي من السلطات هناك.
ولم تعلق الحكومة الجزائرية على موقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الأربعاء، الذي أبدى فيه رفضاً لتقديم بلاده اعتذارا للجزائر عن ماضيها الاستعماري.
- فرنسا تكتفي بـ"خطوات رمزية" دون الاعتذار للجزائر عن حقبة الاستعمار
- الجزائر تهدد بالتحكيم الدولي لاسترجاع "ذاكرتها" من فرنسا
وانقسمت ردود أفعال خبراء وباحثين جزائريين في تصريحات متفرقة لـ"العين الإخبارية" إزاء الموقف الفرنسي بين "المتوقع له" و"المصدوم منه"، لكنهم اتفقوا على تحميل الجانب الجزائري مسؤولية ما وصفوه بـ"جرأة الطرح الفرنسي في التحايل" مقابل "غياب إرادة سياسية حقيقية لدى السلطة" باتجاه الضغط على باريس للاعتذار عن جرائمها، وفق تعبيرهم.
كما ربطوا خطوة "الإليزيه" بـ"الحسابات الانتخابية الداخلية"، رغم إقرار مراقبين بـ"مبالغة الجانب الجزائري في التفاؤل" بقدرة أول رئيس فرنسي من جيل الاستقلال الجزائري على إحداث اختراق كبير في ملف تسوية ملف الذاكرة المعقد بين البلدين.
اعتراف خالٍ من الاعتذار
والأربعاء، كشف قصر الرئاسة الفرنسية "الإليزيه" عن مضمون التقرير الذي قدمه الباحث والمؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا للرئيس إيمانويل ماكرون حول "ملف الذاكرة العالقة" مع الجزائر.
وأعلن مكتب "الإليزيه" بأن ماكرون "لا ينوي تقديم الاعتذار" عن الماضي الاستعماري لبلاده في الجزائر من 1830 إلى 1962، والذي خلف نحو 12 مليون شهيد بحسب دراسات تاريخية في البلدين.
وقدمت الوثيقة الفرنسية ما يشبه "صيغة أخرى للاعتذار" وفق المراقبين، تمثلت في "خطوات رمزية لإحداث المصالحة التاريخية مع الجزائر وتحسين العلاقات بين البلدين"، من خلال اتخاذ خطوات للاعتراف بما أسمته "أخطاء الحقبة الاستعمارية والواقع الاستعماري القاسي".
وتعهدت في المقابل بفتح الأرشيف الذي نهبته غداة نيل الجزائر استقلالها عام 1962 بـ"الإفراج عن وثائق في خانة السرية".
كما أفادت الرئاسة الفرنسية بأن إيمانويل ماكرون يعتزم المشاركة في 4 احتفالات تذكارية تتعلق بالذكرى الـ60 لنهاية ما تسميه "حرب الجزائر" عام 1962، و"اليوم الوطني للحركيين" في 25 أيلول/سبتمبر (وهم خونة الثورة الجزائرية)، وذكرى قمع مظاهرة للجزائريين في باريس في 17 أكتوبر/تشرين الأول 1961، وكذا ذكرى توقيع اتفاقيات إيفيان في 19 مارس/آذار 1962 وهو التاريخ الذي أعلن فيه وقف إطلاق النار بين جيش التحرير الجزائري وجيش الاحتلال الفرنسي.
وفي أكتوبر/تشرين الأول الماضي، هددت الجزائر باللجوء إلى التحكيم الدولي لاسترجاع أرشيفها المنهوب فترة الاحتلال الفرنسي الذي دام 132 سنة (1830 – 1962) بسبب ما وصفته بـ"التباطؤ الفرنسي في تلبية مطلبها".
ورقة المصالح الاقتصادية
وفي الوقت الذي التزمت فيه السلطات الجزائرية الصمت على القرار الفرنسي، كشفت وسائل إعلام جزائرية، في الأيام الماضية، نقلا عن مصادر لم تسمها اعتزام الجزائر "مراجعة عقود الشراكة مع باريس وفق منظور جديد يرتكز على معادلة رابح – رابح" وفق "إطار يحكم العلاقات بين البلدين في المستقبل".
واعتبرت المصادر الإعلامية أن الجزائر استبقت الخطوة الفرنسية بتأجيلها اجتماع اللجنة المشتركة بين البلدين التي كانت مقررة في 18 يناير/كانون الثاني الماضي إلى الشهر المقبل.
غير أن المواقف الرسمية الجزائرية "المعلنة" لا توحي بحسب المتابعين بـ"إمكانية اتخاذ خطوات تصعيدية" تستهدف المصالح الاقتصادية الفرنسية.
وتحدثت الحكومة الجزائرية عن رغبتها في "إقامة شراكة استثنائية" مع باريس خلال اتصال هاتفي تلقاه رئيس الوزراء الجزائري عبد العزيز جراد، الأسبوع الماضي، من نظيره الفرنسي كاستكس.
وذكر مكتب الوزير الأول الجزائري في بيان حصلت "العين الإخبارية" على نسخة منه، بأن جراد وكاستكس بحثا مستوى العلاقات الثنائية و التشاور الدائم حول آفاق التعاون بين البلدين، وكذا "العمل لبناء شراكة استثنائية وفقا لتطلعات الجانبين، خاصة في الاستثمار ونقل التكنولوجيا".
شروط سياسية "منعدمة"
وقدم المؤرخ والباحث الجزائري الدكتور أرزقي فراد قراءة لأبعاد القرار الفرنسي وخلفياته، ولم يخف "صدمته" من الموقف الفرنسي ومما أسماه "طغيان الجانب السياسي على العلمي" في تقرير المؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا.
وأشار تصريح لـ"العين الإخبارية" إلى ما وصفه بـ"غياب الشروط السياسية التي بإمكانها أن تساعد في تحقيق مطلب الاعتذار".
"منطق مقلوب"
وحدد الشرط الأول فيما أسماه "المنطق المقلوب الذي تسير عليه السلطات الجزائرية في حديثها عن مطالب الاعتذار الفرنسي"، ويرى أن "المنطق يقتضي تجريم الاستعمار، وعلى الدولة الجزائرية أن تسن قانونا يجرم الاستعمار مثلما مجدت باريس الاستعمار في 2005، والذي يعد أولوية الأولويات قبل التفكير في الاعتذار الفرنسي".
ومع بداية الشهر الحالي، استبعد مستشار الرئيس الجزائري لشؤون الذاكرة عبدالمجيد شيخي "طرح قانون لتجريم الاحتلال الفرنسي للجزائر"، وبأنه "ليس من الأولويات بالنسبة لملف الذاكرة".
واعتبر "شيخي" بأن "الشعب الجزائري برمته جرم الاستعمار، ولا يحتاج الأمر إلى نص قانوني".
"تحايل فرنسي"
أستاذ التاريخ بجامعة الجزائر الدكتور أرزقي فراد الذي كان أول نائب بالبرلمان الجزائري يقدم اقتراحاً عام 2001 لسن قانون لتجريم الاستعمار الفرنسي، أعرب عن "صدمته الثنائية" من محتوى التقرير الفرنسي.
وذكر أن بنجامين ستورا متخصص في تاريخ الاستعمار الفرنسي للجزائر، بينما الجزائر لم "تسند مهمة متابعة الذاكرة مع الجانب الفرنسي لأكاديميين مختصين في التاريخ بإمكانهم الوقوف بندية".
وقال الدكتور فراد لـ"العين الإخبارية" "أنا مصدوم من المؤرخ بنجامين ستورا ومن الملف الذي قدمه، كنت أعتقد أن المقاربة العلمية ستنتصر، وأنا مصدوم من الموقف الفرنسي، وما ارتكبه الاحتلال الفرنسي هي جرائم ضد الإنسانية تقتضي تقديم الاعتذار، وهو أضعف شيء".
وكشف المؤرخ الجزائري عن "بقاء آثار الاحتلال الفرنسي إلى يومنا بالجزائر، ولا يزال الجزائريون يموتون من الإشعاعات النووية بالصحراء وأطفال مشوهون ومن القنابل التي زرعتها فرنسا في الجبال وحدودنا الغربية والشرقية".
ووصف الموقف الفرنسي بـ"اللف والدوران، لذلك ستبقى مشكلة الذاكرة عالقة، وعلى الجزائر أن تتحرك بقانون لتجريم الاستعمار".
واعتبر في المقابل أنه "ليس المطلوب من الجزائر أن تدخل في صراع مع فرنسا، بل اتخاذ عملية تجرم فترة احتلالها، والسؤال الذي يجب أن يطرح هو سر عجز الدولة الجزائرية عن تجريم الاستعمار".
غياب إرادة سياسية
الدكتور حسين قادري أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة الجزائر يرى أنه "لا يوجد توتر في العلاقات بين الجزائر وباريس، وأن الفرنسيين يستخدمون ملف الذاكرة من أجل التوازنات الداخلية وحملة انتخابية مسبقة، كما أن الظروف الداخلية بالجزائر تعلب دورا في الموقف الفرنسي".
واعتبر في تصريح لـ"العين الإخبارية" أن "الأوراق التي تلعب تحت الطاولة في العلاقات بين البلدين أكثر من الظاهرة منها، والجزائر لديها من التعقل والصبر في الظروف الحالية ما يجعلها توازن بين القضايا التي تضر بمصالحها الاستراتيجية مع قوى دولية، ومع ما يتطلبه إصلاح القضايا التاريخية".
ويرى المهتم بشؤون العلاقات الجزائرية-الفرنسية أن "الموقف الفرنسي يستند إلى مجموعة المعلومات، وهي تعرف بأن الجزائر ليست جادة في مطلب الاعتذار وهو ملف قديم متجدد، وكانت للاستهلاك أكثر منه مطلب حقيقي، خصوصاً فترة الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة".
ونوه بأن تحقيق مطلب الاعتذار يتطلب "وجود إرادة سياسية قائمة على التوازن المستقر في العلاقات بين البلدين، أما الجزائر الذي تعيش وضعاً داخلياً وإقليمياً لا تحسد عليه فلا تشجعها في الضغط على باريس لتقديم الاعتذار، وأعتقد بأن الجزائر ليست مستعدة لفتح ملف كبير مثل هذا لا يسمن ولا يغني من جوع من الناحية البراغماتية".
مضيفاً أن "تولد الإرادة السياسية يكون من خلال المؤسسات، والجزائر تمر اليوم بمرحلة السعي لبناء مؤسسات دولة قوية تمتلك الشرعية الشعبية والتي بإمكانها التفاوض مستقبلاً على هذه الملفات الشائكة وغيرها".
اتفاقيات سرية
وأشار الأكاديمي الجزائري إلى مسألة اتفاقيات إيفيان بين البلدين (1961)، وتحدث "عن وجود بنود سرية سمحت لفرنسا بالضغط على الجزائر وفق ما يتم الحديث عنه، لأنها تعتقد بأن الجزائر هي التي تملصت من هذه الاتفاقيات، والتي تنص على أن لباريس موقع قدم استثنائي".
وختم الدكتور قادري بالتنويه إلى أن العلاقات مع فرنسا "ستبقى محكومة بضوابط تاريخية ومصلحية وثقافية واقتصادية، وفرنسا لا تزال تنظر للجزائر إلى الآن بنظرة خاصة، ولا يمكن الحديث عن قوة الموقف الجزائري إلا بمؤسساته واقتصادها القوي".