الجزائر في 2020.. استعادة "الذاكرة"
سجل عام 2020 حدثاً استثنائياً في الذاكرة التاريخية الجماعية للجزائريين، بعد أن ربحت بلادهم "معركة جديدة في صراع الذاكرة" مع فرنسا مستعمِر الأمس، باستعادة رفات 24 من شهداء المقاومات الشعبية.
وعاد رفات الجزائريين إلى أحضان الوطن للمرة الأولى منذ استقلال البلاد قبل 58 عاماً، لتدفن في الأرض التي ارتوت بدماء نحو 12 مليون شهيد، طوال 132 سنة من الاحتلال الفرنسي للجزائر (1830 – 1962).
احتضنت أرض الثورات رفات أول من دافعوا عنها بعد 168 سنة من استشهادهم، بمراسم رسمية اقشعرت لها الأبدان، و"دموع رسمية وشعبية" لا تقام ولا تذرف إلا للأبطال من أبناء بلد المليون ونصف المليون شهيد.
عادوا من "متحف الإنسان" بباريس بعد أن كانت رفاتهم معروضة للسياح بـ"فخر"، انتقاماً منهم على دفاعهم عن أرضهم كما ذكر مؤرخون فرنسيون وجزائريون.
هؤلاء الشهداء قطع الاحتلال الفرنسي رؤوسهم وعرضهم في واحد من أشهر المتاحف العالمية كـ"غنيمة حرب".
وتروي جميع الدراسات التاريخية في البلدين، أن من استرجعتهم الجزائر كانوا "شهداء من نوع خاص"، فقد قطع الاحتلال رؤوسهم "وهم أحياء" انتقاماً منهم على الخسائر التي كبدوها لجيشه المحتل.
لم يكن استعادة الرفات الـ24 إلا محطة أولى طويت من مسلسل الذاكرة المعقد بين الجزائر وفرنسا، حتى إن ملف رفات الشهداء لم يطو بالكامل، ولم يكن هذا العدد إلا جزء من آلاف الرؤوس المقطوعة التي لم يتم التعرف على هوياتها جميعا؛ إذ قدرت دراسات فرنسية عددها الإجمالي بنحو 18 ألف جمجمة.
عيد استقلال "ثانٍ"
لطالما تساءل الباحثون والمحللون السياسيون عما تبقى من قيم الثورة التحريرية الجزائرية ضد الاستعمار لدى أجيال ما بعد الاستقلال، وإن بقيت هذه الأجيال تفتخر بماضي وتاريخ بلدها المشرف في الدفاع عن الأرض والشرف.
لكن عيد استقلال الجزائر في 2020 الذي صادف الـ5 يوليو/تموز كان له طعم خاص عند مختلف الأجيال، أعادت مشاهد استقبال الرفات المهيبة شعور الاعتزاز عند شباب الجزائر بتاريخهم وشهدائهم.
اهتم الجزائريون بشكل غير مسبوق بحدث استعادة الرفات 24 شهيداً، وتابع الملايين منهم مراسم استقبالهم الرسمية التي أقامتها الرئاسة ووزارة الدفاع بفخر واعتزاز، امتزجت فيها مشاعر الفرحة والحزن بالدموع والزغاريد.
دموع لم يتمالك حتى الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون نفسه وهو يذرفها، مطأطأ رأسه عند استقبالهم، في مشهد مهيب لم تشهده الجزائر طوال تاريخها.
أقامت لهم سلطات الجزائر استقبالاً بطولياً، بدء بطائرات حربية رافقت الطائرة المدنية التي نقلت رفاتهم من باريس إلى أن حطت بمطار "هواري بومدين" الدولي بالجزائر العاصمة.
وعلى بساط أحمر وبالحرس الجمهوري، و58 طلقة مدفعية، وبحضور كبار المسؤولين الجزائريين، سارت تلك الرفات الطاهرة في يوم عيد الاستقلال.
وشاركت في مراسم الاستقبال أيضا، السفن الحربية الجزائرية بصافراتها التي دوت سماء العاصمة، وإنزال جوي للمظليين المغاوير حاملين رايات بالألوان الثلاثة لعلم الجزائر وهي الأخضر والأبيض والأحمر.
حتى الجزائريون استقبلوا رفات الشهداء الـ24 على طريقتهم الخاصة، وبشكل عفوي وغير مبرمج، وسارعوا لنشر أعلام بلدهم على شرفات منازلهم، وتعالت زغاريد النسوة من مختلف المنازل وبمختلف المحافظات، وأقام بعضهم ولائم على روح الشهداء.
ليتم دفنهم في مربع الشهداء بمقبرة "العالية" بالجزائر العاصمة، حيث يرقد عدد كبير من شهداء الجزائر ورؤسائها السابقون وكبار مسؤوليها.
24 بطلاً
من أبرز أسماء رفات شهداء المقاومات الشعبية الذين استرجعتهم الجزائر، كان جمجمة الشهيد "الشريف بوبغلة" الذي قطعت فرنسا رأسه وهو حي عام 1854، بعد الخسائر الفادحة التي كبدها لجيشها بمنطقة القبائل التي قاد بها مقاومة ضروس، قبل أن ينضم إلى جيش المقاومة الشهيدة "لالا فاطمة نسومر".
وكذا الشهيد "الشيخ بوزيان" قائد مقاومة الزعاطشة الذي لقي المصير ذاته بقطع رأسه حياً مع ابن عمه "موسى الدرقاوين" في معركة "الزعاطشة" بمحافظة بسكرة الواقعة جنوب شرق الجزائر، قبل أن يتم التمثيل برأسيهما أمام الملأ.
وكذلك عيسى حمادي ومحمد بن علال بن مبارك مساعد الأمير عبد القادر مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة الذي قاد ثورة شعبية ضد الاحتلال الفرنسي قبل أن يتم نفيه إلى دمشق.
كان من بينهم أيضا "متخاري التيطراوي" شهيد مصري اختار الدفاع عن أرض الجزائر، وسماه الجزائريون "الشهيد المصري الجزائري"، وكان أول مصري يتبنى قضية تحرير الجزائر.
مفاوضات عسيرة
بدأت الجزائر مفاوضاتها مع الحكومة الفرنسية لاسترجاع رفات شهدائها منذ استقلالها عام 1962، إلا أنها اصطدمت دائماً برفض باريس، قبل أن يعود الملف إلى واجهة العلاقات بين البلدين في 2011.
تحرك نشطاء وباحثون وحقوقيون جزائريون لجمع آلاف التوقيعات التي تدعو لاسترجاع رفات الشهداء للضغط على السلطات الفرنسية، قبل أن تتحرك وزارة المجاهدين (قدماء المحاربين) بمراسلة باريس، وتم الاتفاق رسمياً على إدراجه ضمن مباحثات "ملف الذاكرة" بين البلدين.
نهاية 2017، لاحت في الأفق بوادر انفراج "أزمة الجماجم" بين الجزائر وباريس، بعد إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، استعداد بلاده لتسليمها، على أن تكون بداية لمفاوضات جدية لطي ملف الذاكرة المعقد بين البلدين.
ولم يتمكن البلدان طوال 58 عاماً من حل ذلك الملف، المتعلق أساساً بالأرشيف المنهوب، والتجارب النووية، وجرائم الإبادات الجماعية، ومطالبة الجزائر لفرنسا بالاعتذار وتقديم تعويضات عن جرائمها.
وكان الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون قد تعهد في حملته الانتخابية في 2019 باستعادة رفات شهداء المقاومات الشعبية ودفنهم بالأرض التي استشهدوا من أجلها.
وفي كلمته لدى استقبال رفات الشهداء، قال تبون: "مضى على حرمان هؤلاء الشهداء من حقهم الطبيعي والإنساني في الدفن، أكثر من 170 سنة، والجزائر عازمة على إتمام استرجاع رفات المقاومين حتى يلتئم شمل جميع شهدائنا فوق الأرض التي ضحوا من أجلها بأعز ما يملكون".