"المتنبي" ينفض غبار كورونا.. عودة الحياة لـ"شارع المعرفة" في بغداد
على بعد أمتار من ناصية مدخله المعتق بالحضارة والتاريخ، تستشعر أزمانا قرأتها في كتب الروايات والسيرة.. إنه شارع المتنبي في قلب بغداد.
بمجرد اقترابك من الشارع سرعان ما يمتثل أمام مخيلتك شريط مصور يحيل بصرك إلى قرون وعقود سحيقة في القدم غنية بأحداث وقضايا وقصائد عظيمة.
عند مدخله يستقبلك تمثال لشاعر لا ينسى، شاكس في السياسة وحاور في الأدب ونظم الأبيات على حب الوطن.. إنه معروف الرصافي المتوفى عام 1945، وصاحب البيت الشعري الشهير "كان لي وطن أبكي لنكبته واليوم لا وطن لي ولا سكن"، في حروف لا تخلو من استباق الأحداث والتنبؤ بحال بلاد المدارس والمجالس ما بعد 70 عاماً على رحيله.
وبعده بخطوات نجد أن الشعر والقرطاس والقلم شخصت على ضفاف نهر دجلة، على هيئة صرح تخشى أن تمر من جواره دون أن تلقي التحية عليه وتذيع على مسامعه الحضور.. إنه المتنبي العظيم الذي ملأ الدنيا بشعره وجاد بما لم يجد به أحد من قبله أو بعده، فكان يستحق ما أنزل نفسه من منزلة في ذلك البيت "أنا في أمة تداركها الله غريب كصالح في ثمود".
وما بين النصبين، يمتد شارع المتنبي، عبر دكاكينه وبسطاته المتناثرة على أعتاب أرصفته، حيث الكتب والأدب والفن والزبائن من المثقفين والنخب وكذلك العامة من الجمهور .
وشارع المتنبي، باحة أدبية وثقافية، يقصدها البغداديون وبقية من محافظات أخرى، وهو جزء من ذاكرة عراقية بامتياز حفظت في طياتها وقائع وأسماء وحوادث مهمة.
يطل شارع المتنبي على شارع الرشيد وهو أعتق الأماكن البغدادية، الذي يعود إنشاؤه إلى الحكم العثماني للعراق قبل عشرات العقود.
ويقول صلاح، صاحب إحدى المكتبات في الشارع: "المتنبي ليس سوقاً لبيع الكتب فحسب وإنما باحة فكرية وأفق لتلاقح الرؤى".
ويشير صلاح، لـ"العين الإخبارية"، إلى أن "شارع المتنبي أصبح وبمرور السنوات، واجهة تنضج فيها المواقف السياسية وتطورات الأحداث اليومية، حتى إنه أمسى نبضاً للشارع الجماهيري ومحركاً أساسياً لتحريك وإثارة القضايا المهمة نحو الرأي العام".
وتقع في شارع المتنبي مقاهٍ مهمة يعود تاريخها إلى عقود تتجاوز المائة عام بينها مقهى الشابندر والزهاوي وحسن عجمي والأسطورة وأم كلثوم الذي سمي باسم كوكب الشرق بعد زيارتها الشهيرة إلى بغداد عند ثلاثينيات القرن الماضي والغناء عند منطقة قريبة منه تسمى "خان المدلل".
وتتزاحم الأقدام عادة عند كل يوم جمعة على شارع المتنبي، إذ إنه توقيت معروف وموعد لا يبارحه الكثير من المحبين للقاء وتبادل الأحاديث ومطالعة الكتب، عادة ما تبدأ طقوسه باحتساء الشاي عند أحد تلك المقاهي إيذاناً ببدء الجولة وانطلاقاً نحو أزقته ومعالمه الأثرية.
وبشأن طبيعة الإقبال وحركة زائري الشارع، يتحدث علي طالب، صاحب إحدى المكتبات، في حديث لـ"العين الإخبارية"، عن ظروف جائحة كورونا وكيف تداعت أحداثها على المكان الأدبي الأوسع في بغداد.
ويقول: "خلال الـ5 أشهر الماضية وبعد فرض الإجراءات الإحترازية والوقائية من قبل السلطات الصحية لمنع تفشي فيروس كورونا، بات شارع المتنبي عبارة عن أطلال".
لكن الأمور بدأت بالتحسن وعاد الشارع يضج بالرواد والزائرين شيئاً فشيئاً منذ نحو أكثر من 3 أشهر، بحسب طالب الذي استطرد قائلا: "كنا نخشى أن يصاب المتنبي بمضاعفات الجائحة ويعتاد الأهل على هجرانه إلى الأبد".
ويتوزع أغلب زوار الشارع ما بين المكتبات والمقاهي والمراكز الثقافية التي تشهد انعقاد جلسات حوارية ومحاضرات في الأدب والفن والتاريخ.
ويلفت محمد قبان، وهو سبعيني يسكن إحدى المناطق البغدادية القديمة إلى أن "أهمية المتنبي تكمن في أنه طرف توازن ثقافي في ظل معادلة ظرفية تريد للمجتمع العراقي التعسكر والتحزب العقائدي المغلق على ذاته".
ويرى قبان أن العراق بحاجة ماسة لأماكن أدبية وفكرية أكثر من أي مرحلة ماضية لكون "العراقيين أمام إرادات ومخططات ضخمة تحاول ممارسة غسل دماغ الفرد العراقي ونزعه عن الاتصال بالحضارات والثقافات الحقيقية"، بحسب قوله.
وعند عمق الشارع، تقف ساعة القشلة، وسط مبنى تراثي، شاهداً على عصر مر ومازال أثره حاضراً في الوعي الاجتماعي والسياسي العراقي.
ويقول سرمد إبراهيم، أحد الزبائن الدائمين في شارع المتنبي، وهو يجلس تحت مظلة خشبية بانتظار قدوم جلسائه: "هنا نقيم حوارات ومنتديات ثقافية وسياسية ولكل مجموعة مكانها المخصص".
ومبنى القشلة هو مقر للحكومة في العهد العثماني ثم المملكة العراقية، ففيه كان يقرأ الفرمان السلطاني وبيانات الوالي، كما تم فيه تتويج الملك فيصل الأول في 23 أغسطس/آب 1921 في حفل كبير حضره دبلوماسيون أجانب وموظفون وعسكريون بريطانيون.