يمكن القول إن الحرب الباردة داخل الناتو تتركز بين جبهتين تقف في إحداهما تركيا والولايات المتحدة، وعلى الضفة المقابلة تقف فرنسا وألمانيا.
في الثالث والرابع من شهر ديسمبر/كانون الأول المقبل، يحتفل حلف شمال الأطلسي (الناتو) بمرور سبعين سنة على تأسيسه. سيرفع قادة الحلف نخب ذلك في لندن، وخلف الابتسامات تشتعل حرب باردة بين الدول الأعضاء بسبب خلافات عدة تبدأ من ميزانية التكتل، ولا تنتهي عند العدوان التركي على شمال سوريا.
صانع الحرب وقائدها طبعاً هو الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. والسبب مثل كل مرة ما تنفقه الولايات المتحدة دون مقابل ملموس، وفق فهم رجل الأعمال للسياسة. ثلاثة أرباع ميزانية الحلف التي تقدر بترليون دولار تدفعها واشنطن. أما الربع الأخير فتتكفل به ثمانية وعشرون دولة من أمريكا الشمالية والقارة الأوروبية.
يمكن القول إن الحرب الباردة داخل الناتو تتركز بين جبهتين تقف في إحداهما تركيا والولايات المتحدة، وعلى الضفة المقابلة تقف فرنسا وألمانيا. الدولتان الأوروبيتان تعارضان توجهات لواشنطن وأنقرة في الحلف، لا تتناسب مع سياساتهما الخارجية كدول مستقلة، وكقادة للاتحاد الأوروبي الذي يتمنى ترامب تفككه.
ترامب يريد من دول الحلف أن تنفق اثنين في المئة من ميزانياتها لصالح الدفاع، كما يقول النظام الداخلي للتكتل. وإن لم يفعل الجميع ذلك، أو على الأقل مجموعة الدول الأوروبية الكبرى مثل ألمانيا وفرنسا وإسبانيا، فإن الرئيس الأمريكي سيعيد النظر في جدوى هذا الحلف وأهمية استمرار بلاده في الإنفاق عليه.
سبع دول في الحلف فقط تدفع ما عليها، والبقية تحاول بما تسمح به إمكاناتها وتطلعاتها للعب دور شرطي العالم. ليس جميع دول الناتو تريد أن تقود الكوكب وتصنع السياسات الدولية. والغالبية تفضل ترك القيادة والإدارة للولايات المتحدة مقابل حماية من الحلف يمكن أن تحتاجها ويمكن ألا تحتاجها أبداً.
المفارقة أن الولايات المتحدة هي أول دولة عضو تطلب مساعدة حلف شمال الأطلسي. كان ذلك عندما تعرضت لهجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، وقد أرسل الناتو حينها قوات إلى أفغانستان بناء على طلب أمريكي. أرادت واشنطن تكرار التجربة مؤخراً عبر إشراك الحلف في مهمة حماية مياه الخليج من الاعتداءات التي طالت الناقلات فيه واتهمت إيران بتنفيذها. ولكن دولاً أوروبية، مثل فرنسا وألمانيا، رفضت الأمر فازدادت علاقة الحلف مع واشنطن تعقيداً.
قبل ترامب كان الناتو بالنسبة للولايات المتحدة تحالفاً استراتيجياً يزيد من قدرتها على قيادة العالم، ويعزز من قوتها في سباق التسلح الذي تخوضه مع الصين وروسيا. أما بعد ترامب فقد باتت أمريكا داخل الحلف وخارجه "فتوة" العالم، الذي يتقاضى مقابل توفير الحماية لأي دولة، فيما عدا إسرائيل التي تحمى مجاناً.
هذه النظرية التي يتحدث بها ترامب منذ أن أصبح رئيساً للولايات المتحدة نهاية 2016. هي أساس المشكلة في حلف الناتو، ومنها تفرعت المشاكل الأخرى. ومن بينها السلبية التي بات ينظر بها الفرنسيون إلى الحلف، والاستياء الألماني المستمر من انتقادات ترامب التي لا تنتهي، ولا ننسى طبعاً النزق التركي في التكتل.
يمكن القول إن الحرب الباردة داخل الناتو تتركز بين جبهتين تقف في إحداهما تركيا والولايات المتحدة، وعلى الضفة المقابلة تقف فرنسا وألمانيا. الدولتان الأوروبيتان تعارضان توجهات لواشنطن وأنقرة في الحلف، لا تتناسب مع سياساتهما الخارجية كدول مستقلة، وكقادة للاتحاد الأوروبي الذي يتمنى ترامب تفككه.
بالإضافة لضغوطه بشأن ميزانية الحلف، يكره الألمان والفرنسيون انسحاب ترامب من الملفات التي تجمعه مع دول الاتحاد الأوروبي أو يتأثر بها التكتل. مثل انسحابه من الاتفاق النووي مع إيران، وانسحابه من اتفاقية باريس للمناخ، وانسحابه من الشمال السوري، وانسحابه من معاهدة الصواريخ النووية مع روسيا.
هذا السلوك الأمريكي يجبر فرنسا وألمانيا وغيرهما كثير من الدول على تغير خططها وسياساتها لاحتواء تداعيات أنانية ترامب، إن جاز التعبير. وكي لا ينسحب الرئيس الأمريكي من الناتو ويخلط أوراق السياسة العالمية والخارطة العسكرية الدولية، قد يضطر الأوروبيون إلى تقديم تنازلات سياسية واقتصادية في الناتو.
يدرك الأتراك أيضاً تمسك الأوروبيين بحلف الناتو. وهم يمتلكون بعض الأوراق التي تساعدهم على ابتزاز الفرنسيين والألمان داخل الحلف وخارجه. أهم هذه الأوراق هو التفاهم الأمريكي التركي شمال سوريا وتأييد ترامب للرئيس رجب طيب أردوغان في قضايا اللاجئين السوريين وعودة الدواعش الأوروبيين إلى دولهم.
يحاول ترامب فرض تركيا قائدة لجبهة الناتو الجنوبية في الحرب على الإرهاب، ولكن الأوروبيين يفضلون التنازل لترامب على التبعية لأردوغان. فالرئيس التركي أكثر بشاعة من نظيره الأمريكي في الابتزاز، كما أنه لا يحارب الإرهاب بقدر ما يغذيه ليبقي العالم في دوامة معارك وهمية تحمي أردوغان من مشنقة أزماته الداخلية.
يعلن الأتراك قبيل قمة لندن أنهم يبحثون صفقة جديدة من منظومة الدفاع الجوي الروسية، ويروج الأمريكيون لاحتمال انسحاب أنقرة من حلف الناتو. ولكن أردوغان لن يذهب نحو هذا القرار، إلا إذا انسحبت واشنطن من الحلف، أو نسج من التحالفات في الشرق ما يكفيه لحماية أمنه واقتصاده بعيداً عن الغرب.
بين الجبهتين الأمريكية التركية والفرنسية الألمانية، تقف بريطانيا التي تسهم بأكثر من عشرة في المئة في ميزانية الناتو، وتحاول مغادرة الاتحاد الأوروبي، لتبرم اتفاقياتها المستقلة مع الولايات المتحدة. يزورها ترامب قبيل قمة الناتو للمرة الثالثة منذ أن تولى الرئاسة، وفي كل مرة يؤكد دعمه لرئيس الوزراء بوريس جونسون.
تبدي لندن مرونة أكثر في التعامل مع الولايات المتحدة، مقارنة ببرلين وباريس. وقد بدا ذلك واضحاً في تمردها على بروكسل وانضمامها إلى التحالف الدولي، الذي تقوده واشنطن لحماية أمن الملاحة في الخليج. لكن ذلك لا يلغي حقيقة حاجة البريطانيين أحياناً للحلول الأوروبية السلمية مثل أزمة الاتفاق النووي الإيراني.
ربما تلعب بريطانيا دوراً إيجابياً في تقريب وجهات النظر بين الأمريكيين والفرنسيين والألمان. وربما تزيد أيضاً من قوة الموقف الأوروبي في المفاوضات مع أردوغان حول وقف عدوانه العسكري على الشمال السوري. فبريطانيا أكثر الدول قرباً من الولايات المتحدة، وأقل الدول الأوروبية خوفاً من الابتزاز التركي عموماً.
يدرك البريطانيون نقاط قوتهم. ولكن الرهان الحقيقي في القمة المقبلة للحلف لن يكون عليهم، وإنما على حذر ترامب من ممارسات خارجية قد تضره في الداخل. فسعير الحرب الباردة في الناتو أهون بكثير على الرئيس الأمريكي من لهيب حرب يشنها الديمقراطيون لعزله وإبعاده عن الولاية الرئاسية ثانية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة