الشعور السائد بين المشاركين العرب في هذه المنتديات المشار إليها هو الوجل والقلق.
عشنا أزمنة سابقة كان فيها عقد المنتديات الاستراتيجية للحوار حول القضايا الكبرى في المنطقة من عجائب الساعة، فكانت في أغلبها محلياً يجرى داخل كل دولة عربية على حدة. وربما كانت مصر هي الأكثر نشاطاً آنذاك حيث حفل معرض الكتاب السنوي بالعديد مما يشبه المؤتمرات عند الحوار حول الكتب المعروضة في الأغلب بين المصريين، ولكن مع مضي الزمن شارك فيها مفكرون عرب، لأن كتبهم كانت معروضة أيضاً. كان مؤتمر النقاش حول "التقرير الاستراتيجي العربي" الذي يصدره مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية منذ عام ١٩٨٦ حدثاً مهماً يجرى فيه نقاش جاد حول مصر والمنطقة والعالم بالتعاون مع مركز البحوث والدراسات السياسية في كلية الاقتصاد العلوم السياسية جامعة القاهرة. ولكن معارض الكتاب سرعان ما ذاعت في دول عربية عدة، وكان لمركز دراسات الوحدة العربية في بيروت دور مهم في نضج هذه المنتديات الفكرية خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، ورغم توجهه "القومي العربي" فإنه فتح الكثير من الأبواب لتيارات عربية شتى تراوحت ما بين الليبرالية والإسلامية.
الشعور السائد بين المشاركين العرب في هذه المنتديات المشار إليها هو الوجل والقلق، خاصة أن عام ٢٠٢٠ المطل على العقد الثالث من القرن الحالي يبدأ عددا من المسيرات التي تحمل كل منها الكثير من العنف.
أصبح المؤتمر القومي العربي سنة سنوية تجرى فيها اشتباكات فكرية سرعان ما تكون مجلداً كبيراً من الدراسات. المدهش أن النشاط الفكري الكبير في الاتجاه القومي ومد يده للتيارات الفكرية الأخرى، تم في وقت اشتد الوهن فيه داخل مفاصل الفكرة القومية التي ربما وصلت إلى منتهاها بعد الغزو العراقي للكويت. فقد سبق المنعطف التطورات التي تلت حرب أكتوبر ١٩٧٣ وبداية عملية السلام العربية الإسرائيلية، وانتقال الجامعة العربية من القاهرة إلى تونس، ونشوب الحرب العراقية الإيرانية التي أعقبت الثورة "الإسلامية" الإيرانية ومواكبتها لأحداث مهمة ذات طبيعة "إسلامية" جرت في أفغانستان، وعملية الاعتداء على الحرم المكي الشريف. ما كان معروفاً بحركة الإخوان المسلمين على مدى عقود كثيرة سابقة تولد عنه في ظل ظروف الثمانينيات حركات راديكالية عنيفة راحت تمارس "الجهاد" في بلدان عديدة.
كان آخر المنتديات الكبرى التي جرت في النصف الثاني في ثمانينيات القرن الماضي، هو مشروع "استشراف مستقبل الوطن العربي" الذي جرت مناقشة نتائجه في تونس، وسط حشد كبير من المفكرين وعلماء السياسة العرب.
تسعينيات القرن الماضي كانت مرحلة انتقالية، وعلى الأغلب كانت المنتديات العربية تجرى في ثنايا منتديات أكبر ذات طبيعة عالمية و"شرق أوسطية" تولدت في أعقاب مؤتمر مدريد للسلام، وما نتج عنه من مفاوضات متعددة الأطراف تفرع عنها الكثير من الموضوعات. ولكن هذه الأخرى ما لبثت أن شحبت تدريجياً، خاصة بعد انهيار عملية السلام ونشوب الانتفاضة الفلسطينية والغزو الأمريكي للعراق. قبل منتصف العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، كانت "اللحظة الخليجية" قد حلت فانتقلت ساحة الحوار إلى شرق العالم العربي، ليس في بغداد هذه المرة وإنما في أبوظبي ودبي والمنامة؛ ودفعت عواصف "الربيع العربي" رياحاً كثيرة إلى شراع المؤتمرات "الاستراتيجية" فازدهرت مع السنوات الأخيرة من العقد الثاني. في القاهرة فإن ساحة الحوار الاستراتيجي جرت في شرق المدينة، حيث الجامعة الأمريكية التي جمعت هي الأخرى مشاركين من دول عربية شتى، مع آخرين من أوروبا وأمريكا، ولأسباب غير مفهومة، فإنه كان غائباً طوال الوقت مفكرون ودارسون من الصين وروسيا. على أي حال فإن جميع هذه المؤتمرات كانت تدور حول ثلاثة مستويات من التحليل: العالم، والإقليم، والدولة العربية وما وصلت إليه من أزمات تعمدت بالدم خلال السنوات العشر لعقد نشبت فيه الثورات كما تنبت النباتات. وخلال الأسابيع الأخيرة عقدت هذه الندوات في ظلال موجة جديدة من "الربيع" شملت الجزائر والسودان والعراق ولبنان، ومن عجب أن "الربيع الإيراني" جاء هو الآخر مزامل لهذه الموجة.
ولما كنت قد شاركت في معظم هذه الندوات والملتقيات (أصبح اسم ملتقى أو حوار أكثر شيوعاً من الندوة أو المؤتمر) فإن السمة العامة لها كانت الحيرة في فهم ما يجرى؛ وعندما كان يجرى الإمساك بالمعادلات الإقليمية الكبرى في إطار "العالم العربي ودول الإقليم غير العربية" لم يكن ذلك مريحاً لكثيرين طالما أن "الدولة الوطنية" هي وحدة التحليل الرئيسية، وهي تصدق على العرب كما تصدق على غيرهم. الأكثر من ذلك حيرة كان كيف يتم التعامل مع إسرائيل التي تصاعدت عدوانيتها خلال السنوات الأخيرة، وبالتحديد منذ تولي دونالد ترامب الإدارة الأمريكية، ومن ساعاتها باتت الدولة العبرية تحصل على الكثير من المكافآت بدأت بالقدس، ثم الجولان، وساعة انعقاد هذه المنتديات الاستراتيجية أعلنت واشنطن اعتبارها المستوطنات الإسرائيلية "شرعية"، ولا تقف "عقبة" في طريق السلام. كان تراث عقود من المفاوضات التي بدأت بالبحث عن "الحكم الذاتي" للفلسطينيين، وانتهت بحل الدولتين، قد وصلت أخيراً إلى طريق مسدود، يحفه قيام المزيد من المستوطنات، وفرض سياسات الأمر الواقع.
الدول العربية من جانبها عقدت مؤتمراً لوزراء الخارجية العرب في الجامعة العربية، قام بتسجيل الموقف العربي الرافض للموقفين الإسرائيلي والأمريكي، ولكن المسالمين مع إسرائيل لم يحددوا ماذا تعني الخطوات الأمريكية والإسرائيلية بالنسبة لعملية السلام، ولا المستمرين في العداء لإسرائيل، فإنهم لم يحددوا أيضاً ما الذي يعنيه ما حدث أكثر من إضافة موقف إضافي لمواقف كثيرة مماثلة سابقة.
الشعور السائد بين المشاركين العرب في هذه المنتديات المشار إليها هو الوجل والقلق، خاصة أن عام ٢٠٢٠ المطل على العقد الثالث من القرن الحالي يبدأ عدداً من المسيرات التي تحمل كل منها الكثير من العنف. أولها أن ما كان "ربيعاً" في أول العقد انتهى إلى أكثر من مليون قتيل، وثلاثة أمثال الرقم من الجرحى والمعوقين، وما قيمته مليارات الدولارات من التدمير للمدن والبنية التحتية. هذا "الربيع" مع مطلع العقد الجديد لم ينتهِ بعد، وهناك الكثير من النار تحت الرماد في ليبيا واليمن وسوريا لا يزال ساخناً، والشواهد الأولى في العراق كان مئات من القتلى. وثانيها أنه مع التسليم بأن قوى الإسلام الراديكالي قد واجهت ضربات قوية، وسقط الإخوان المسلمون في مصر، وانهارت "دولة الخلافة"، إلا أن شواهد كثيرة تنبئ بأن معركتهم وتجنيدهم لا يزال مستمراً. وثالثها أن التدخل الدولي والإقليمي في الدول العربية المصابة بداء "الربيع" قد وصل إلى مستويات صدامية وعنيفة وتوسعية. ورابعها أنه حتى وقت كتابة هذه السطور لم تكن هناك صيغة عربية للتعامل مع الواقع المؤلم الجاري وتبعاته المستمرة زمنياً مع قادم الأيام. وخامسها أنه رغم كل مسببات التشاؤم هذه فإن العقد الذاهب يترك الزمن إلى العقد القادم، محملاً بقدر غير قليل من النزعات الإصلاحية التي تجرى حالياً في السعودية ومصر والأردن والكويت والمغرب والبحرين وعمان؛ وبشكل ما فإن التجربة الإماراتية بات فيها الكثير المفيد للتجارب العربية الأخرى. إصلاح الدولة العربية الوطنية، بل الدعوة إلى الدولة الوطنية في الحراكين العراقي واللبناني لكي تكون أساساً للسياسة والتفاعل السياسي بين "المواطنين" يشكل طريقاً بين عقدين يشير إلى أضواء في نهاية النفق.
المدهش أنه في الملتقيات المشار إليها لم تجد جهود الإصلاح هذه ما تستحقه من اهتمام، ورغم الحديث الكثير عن التكنولوجيات الحديثة للثورة الرابعة، فإن دورها في عملية الإصلاح هذه لم تأخذ ما تستحقه من اجتهاد. كان الجميع يحاولون درء المخاطر، ولكن البحث كان قليلاً عن الفرص الكثيرة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة