في نهاية المطاف، جمهورية ساحة التحرير أو المدينة الفاضلة تُخيف الحكومة العراقية الحالية.
لم يكن الفيلسوف اليوناني أفلاطون (427 - 347 ق.م) مؤسس أكاديمية أثينا، يتوقع أن أفكاره ستُطبق يوماً في ساحة التحرير في 2019، ويبني الشباب العراقيون مدينتهم على غرار مدينته الفاضلة التي يحكمها الفلاسفة، يتساوى فيها المواطن والمقيم والزائر وتخلق مساحة للمعيشة والرفاهية على مستوى رفيع من الحضارة والثقافة وفيها أرقى أنواع الخدمات وبأسلوب حضاري. جاءت المدينة الفاضلة احتجاجاً على تبوء بغداد في ذيل قائمة أسوأ مدينة للعيش، حسب المؤشرات والمعايير الدولية، وأدى ذلك إلى انطلاق ثورة الشباب العراقي في الأول من أكتوبر واستمرارها لحد الآن. ولمن لا يعرف ساحة التحرير، فهي تقع في منطقة الباب الشرقي؛ وسميت بهذا الاسم رداً على الظلم والطغيان بحق الشعب العراقي عبر التاريخ. وفي جانبها الشرقي نصب الحرية، الأكثر شهرة في بغداد، للنحات العراقي جواد سليم، حيث ولدت تحته عشرات الانتفاضات والاحتجاجات والثوار، مجسداً عبر 14 قطعة نحتية، ترمز إلى ثورة 14 يوليو 1958، شرارة الثورات العراقية، سجين ينتزع القضبان بذراعيه القويتين، وآخرين يرفعون قبضة الحرية، وأم ثكلى وكلها ترمز إلى الاعتقال والتعذيب والظلم التي ما زالت مستمرة لحد الآن.
في نهاية المطاف، جمهورية ساحة التحرير أو المدينة الفاضلة تُخيف الحكومة العراقية الحالية، ترتعد فرائضها من إقدام الدول على تحويل سفاراتها وقنصلياتها إلى المدينة الفاضلة في ساحة التحرير، خاصة بعد احتراق القنصلية الإيرانية في النجف.
يمكن لأي زائر أن يزور المدينة الفاضلة دون تاشيرة دخول أو موافقات أمنية، حيث أصبحت بجهود الشباب المنتفض مدينة كاملة تحتوي على جميع الوزارات، فيها الدفاع المدني ورجال مرور، وترميم الطرق والمباني، وتوفير الطاقة الكهربائية، وطبابة مجانية وتوفير للعلاج، وسائل نقل دون أي مقابل، وأسواق توفر حوائج للمتظاهرين من مأكل وملبس ومكتبات ومتاحف وشعبة للمفقودات لمن فقد أوراقه الثبوتية أو حاجياته في بين هذه الحشود المكتظة. وقام الشباب بتنظيف هذه المنطقة ولونوا جدرانها بالرسومات، وزينوها بشعاراتهم الرومانسية، معلنين تشكيل جمهورية أفلاطون.
يمكن القول إن ما عجزت عن القيام به الحكومة طيلة 16 عاماً بعد الاحتلال، فعله المتظاهرون في أيام وأسابيع، حتى إنهم بلطوا الشوارع والأرصفة وجعلوها أنطف منطقة في بغداد على الإطلاق. ولكن من أجل تأسيس مدينتهم الفاضلة ونموذجها في ساحة التحرير، دفع الشباب الثائر الكثير من الشهداء، لأنهم طالبوا بحقوقهم بطريقة سلمية. وهكذا تعّج الساحة اليوم بالمتظاهرين من مختلف فئات المجتمع في المدينة الفاضلة، وكل مجموعة تمارس عملاً معيناً، فهناك الأطباء والمهندسون والصيادلة وعمال الصيانة والطباخون والمنظفون وسائقو عربات التوك توك، والمسعفون، وكل ما تحتاجه الحياة. وتنتشر آلاف الخيام التي نصبها المتظاهرون والفرش والأغطية في جميع أنحاء الساحة وطوابق مبنى المطعم التركي المهجور الذي تحول إلى رمز وأيقونة. ولا تخلو المدينة الفاضلة من وسائل الترفيه، فهناك زوايا للاستراحة وتدخين النرجيلة، ولعب الدومينو أو الورق، والاسترخاء، والمسامرة الليلية، وسرد النكات والمواقف الطريفة، والغناء والرقص حتى إقامة الأعراس حيث تمت عمليات عقد القران. ومؤخراً التحق ماراثون شباب التحرير للتعبير عن طريق الرياضة في التحامهم، منع إخوتهم المحتجين. وكذلك بإمكان المتظاهرين والزوار أن يتناولوا طعامهم في أي وقت يشاءون مجاناً، حيث ترى النساء المتطوعات، ومنهن مَنْ فقدن أبناءهن يعمل في مطبخ الثورة، في صنع الطبخات العراقية الشهيرة أو شطائر الفلافل والجبن وغيرهما للمتظاهرين.
ورغم القنابل الدخانية والمسيلة للدموع والرصاص الحي والقنص، تصدح حناجر المتظاهرين بترديد الهتافات وإنشاد الأغاني التي أبدعها المطربون المساندن لثورة الشباب التي تطالب بإسقاط الأحزاب الدينية الحاكمة والمليشيات التابعة لايران. وعلى الجدران وواجهات المباني، علقت مئات اللافتات، من مطالب المتظاهرين وصور الشهداء الذين سقطوا في الساحة، وشعارات رفض المحاصصة والطائفية والفساد، إذ لا وجود لها في المدينة الفاضلة، ولا علم يُرفع غير العلم العراقي، مما يدل على علمانية هذه الاحتجاجات. ومن أجل حماية المدينة الفاضلة، عمل المتظاهرون على نشر نقاط تفتيش في الشوارع المؤدية إلى ساحة التحرير ومحيطها، لإعادة توجيه حركة المرور، وتسهيل حركة المحتجين، وأطلقوا أسماء محافظات على مناطق ساحة التحرير وشارعها، مثل وزارة التجارة والتموين في "محافظة حديقة الأمة" و"وزارة الدفاع" في محافظة مبنى المطعم التركي، وغير ذلك.
وتعتمد المدينة الفاضلة في استمراريتها على تبرعات الناس ودعمهم، في استلام الماء والغذاء والدواء والملابس ومولدات الكهرباء، وحتى دفع ثمن البترول لأصحاب التوك توك التي تستخدم كسيارات الإسعاف، بعد أن منعت السلطات نقل الجرحى إلى المستشفيات، بل تطاردهم إلى مدينة الطب وتلقي القبض عليهم. ومن المساعدات الأخرى، قام الأديب والقاص العراقي المعروف حميد المختار بإهداء ملابسه الشخصية إلى شباب الثورة، دعماً لهم، ولا يتوقف الكثير من الأدباء والفنانين العراقيين عن زيارة هذه المدينة الفاضلة بدون الحاجة إلى الحصول على التأشيرات، لأن حدودها مفتوحة للجميع من عراقيين وأجانب. وقد جاءت الطبيبة الفرنسية من أصول عراقية سابينا سيل، لدعم المظاهرات الاحتجاجية وتم اختطافها من قبل المليشيات، ولا يزال مصيرها مجهولاً لحد الآن، إلى جانب نحو 2500 مختطف لا يُعرف مصيرهم لحد الآن.
تتميز المدينة الفاضلة بعفويتها وانفتاحها وتسامحها، لأنها تحقق مبدأ المواطنة الحقيقية التي لا تخضع إلى المحاصصة الطائفية المقيتة التي شلت جمهورية العنف المجاورة، التي تمتلك ترسانة من الجيوش والأسلحة والقنابل في مقابل المدينة الفاضلة التي لا تمتلك أي نوع سلاح، بل إنها تجمع القنابل الدخانية والمسيلة للدموع والرصاص في معرض مفتوح في نفق ساحة التحرير، من أجل عرضها على الجمهور، حيث تم قتل أكثر من 800 شهيد بدم بارد، ولا يزال القتل مستمراً. لدينا في المشهد العالم، المنطقة الخضراء التي يتحصن فيها الحكام المتصارعون على المال والسلطة في مقابل المدينة الفاضلة في ساحة التحرير، التي يعيش مواطنوها بكل محبة وسلام وتعايش وشرف. وتحتضن المدينة الفاضلة جميع الطوائف والأعراق والأثنيات بدون تمييز أو طائفية، بل على العكس، فهي خرجت للوقوف ضدها.
وفي نهاية المطاف، جمهورية ساحة التحرير أو المدينة الفاضلة تُخيف الحكومة العراقية الحالية، ترتعد فرائضها من إقدام الدول على تحويل سفاراتها وقنصلياتها إلى المدينة الفاضلة في ساحة التحرير، خاصة بعد احتراق القنصلية الإيرانية في النجف.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة