القناع الأمازيغي.. السر المقدس المدنس في الذاكرة الشعبية

منذ أزمنة بعيدة، شكّل القناع لدى الأمازيغ في شمال أفريقيا أكثر من مجرد أداة للتنكر؛ كان بوابةً للتعبير عن القوى الماورائية، ومفتاحًا لفهم الطبيعة وإعادة توازنها، ووسيلة لتجسيد شخصيات المجتمع وسخريته من طبقاته.
في المعتقدات القديمة، حُمل القناع بطاقات سحرية قادرة على جلب المطر وتجديد الأرض، وفي الحياة الاجتماعية صار أداةً لكسر القيود وكشف المسكوت عنه.
الأمازيغ الأوائل، كغيرهم من شعوب القارة الأفريقية، احتفوا بالدورات الزراعية السنوية باستخدام أقنعة اعتُقد أنها تحيي الأرض وتخصبها. وفي مراحل مبكرة من التاريخ، ارتدى الإنسان جلود الحيوانات وأغصان الأشجار ليخفي هويته أثناء الصيد أو ليضلّل الأعداء. ومع الزمن، وبفضل احتكاكهم بالحضارات الإغريقية والرومانية، تبدلت الدلالات؛ تحولت الأقنعة من وسيلة لاستحضار القوى الغيبية إلى أداة للتنكر، وفقدت جزءًا من طابعها المقدس لتصبح تعبيرًا تهكميًا هجينيًا يجمع بين الفكاهة والخوف، لكنها احتفظت بصلتها بالطقوس الروحية التي ولدت منها.
المزدوج بحضور كاريكاتيري
القناع الأمازيغي يجمع بين المتناقضات: المقدس والمدنس، الوقور والمبتذل، الإنساني والحيواني، الواقعي والأسطوري. حامله لا يُحاسَب على أفعاله أو أقواله مهما بلغت جرأتها، فيُسمح له بارتكاب «الخطأ الجميل» الذي يكشف الأقنعة الاجتماعية الأخرى، ويفضح التناقضات المخفية في الدين والجنس والعدل والعلاقات الإنسانية.
في المهرجانات الاحتفالية، تبرز أقنعة مستوحاة من حيوانات ارتبطت بالمعتقدات الدينية القديمة مثل الماعز والطيور والغزلان، ومنها ما يغطي الوجه أو الجسد بأكمله. هذه الأقنعة تكسر القيود الاجتماعية والدينية وتمنح مؤديها حرية أداء شخصيات ثابتة كالشيخ وزوجته، اليهودي وزوجته، القاضي، والعبد، إضافةً إلى شخصيات ثانوية مثل الحمار والطبالين. جميعها تتخذ طابعًا غروتسكيًا مبالغًا فيه يشوه الجسد بشكل مقلوب أو ممسوخ، في مشاهد تتداخل فيها الجدية والسخرية، الظلم والعدل، الفرح والخوف.
جلود الأضاحي.. قداسة العري
القناع المحوري، المعروف باسم «بويلماون»، يُصنع من جلود الماعز غير المغسولة والمثبتة على الجسد كاملاً، حيث تخاط الجلود لتشكل «سروالًا» تتدلى في مؤخرته جرابات خصيتي وقضيب الذبيحة، ويُكسى الصدر بجلدين آخرين مع ثدي واحد ضخم في الوسط، في حين تتدلى الذراعان وتعلق على اليد اليمنى كراعا تيس. رمزية هذه الأقنعة تعود إلى مكانة الماعز والأغنام في الثقافة الأمازيغية كمصدر للحليب واللحم واللباس، ورمز للتضحية والفداء أمام القوى الغيبية.
ومع ذلك، توحي الماعز بالشؤم لارتباطها بالجن والعري والشبق؛ لذا يبالغ المؤدون في إبراز الأعضاء التناسلية بشكل فاضح: الخصيتان والقضيب في الخلف، الثدي الوحيد بارز في الصدر، والذيل متدلٍ من الرأس كضفيرة، في مشاهد مسرحية جريئة تصل ذروتها عندما ينقض «باشيخ» على زوجته وسط هتافات الجمهور، مشهد يستحضر العلاقة البدائية بين التقنع والجنس في المجتمعات الزراعية القديمة.
زراعة دورة الحياة
تزين الأقنعة عناصر زراعية مثل عود الذرة، أوراق التين الوحشي، ثمار اليقطين والبرتقال، وقطع الخيش، وكلها رموز أسطورية لتجديد دورة الطبيعة. خلال الكرنفالات، تُعاد مشاهد الحرث والزرع والحصاد، حيث يُختبر المحراث على جسد «بويلماون»، وتؤدى طقوس جنسية تمثل اعتقادًا راسخًا بقدرة الجماع على إنعاش الأرض وزيادة خصوبتها. النساء يقدمن للمشاركين عطايا من الشعير والدقيق والفواكه الجافة، في طقس يعكس أمنيات بمواسم وفيرة.
حتى المشاهد الجريئة التي يؤديها «اليهودي» وزوجته أو العبد تحمل دلالة رمزية؛ إذ يُنظر إلى الفعل الجنسي كمصدر قوة سحرية تعيد للحقل روحه. يتجلى ذلك في سؤال اليهودي قبل العرض: «أيها الناس، بماذا نبدأ، هل بالحرث أم الزواج؟».
طقس رماد التطهر
إلى جانب جلود الأضاحي، تستخدم الأقنعة طلاءً كثيفًا من الرماد الأسود على الوجوه والأجساد، تقليدًا عريقًا في الطقوس السحرية. كلمة «mask» نفسها في الإيطالية تعني «أسود»، وفي اللاتينية «الساحرة»، في إشارة إلى ارتباط القناع بالنار وقدرتها على الحماية والشفاء. الرماد، بقايا نار مقدسة أنضجت لحم الأضحية، يُعتقد أنه يخصب الأرض والحيوان، ويطهر الإنسان من الشرور. بعض المشاهد تُظهر المتنكرين وهم ينبطحون في الرماد قبل مطاردة الحاضرين، في طقس جماعي لتحرير التوترات وإطلاق الضحك كقوة جماعية تحرر من الخوف.
ذاكرة الأسطورة الحية
القناع الأمازيغي يجسد موروثًا بصريًا فريدًا يعكس علاقة الإنسان الأمازيغي بالطبيعة والمقدس، جامعًا بين السخرية والتحرر والخصوبة. هو ذاكرة جماعية تتجدد مع كل احتفال، تروي حكاية الإنسان الأول في سعيه لترويض الطبيعة، وتكشف ازدواجية الحياة بين الطهر والمحظور، بين الخوف والضحك، وبين القداسة والعري الفاضح.
aXA6IDIxNi43My4yMTcuNSA=
جزيرة ام اند امز