أدت الحرب التجارية بين أمريكا والصين إلى العديد من الآثار الضارة، من أهمها بالطبع تباطؤ النشاط الاقتصادي والتخوف من التحول نحو الركود.
أدت الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين إلى العديد من الآثار الضارة، من أهمها بالطبع تباطؤ النشاط الاقتصادي والتخوف من التحول نحو الركود في الكثير من اقتصادات العالم. بل إن الركود أصبح واقعا فعلا في الاقتصادات التي تعتمد أكثر من غيرها على التصدير خاصة للصين والولايات المتحدة، فاقتصاد كبير كالاقتصاد الألماني على سبيل المثال دخل في حالة ركود فعليا. وربما من المهم أيضا الإشارة هنا إلى أن هذه الحرب التجارية قد أضفت مسحة من التشاؤم في جميع أنحاء العالم حول مستقبل تطور الاقتصاد العالمي.
وإزاء هذا التباطؤ في النشاط الاقتصادي نرى اليوم نشاطا ملحوظا تجاه تبني خطط للتحفيز الاقتصادي وتنقسم هذه الخطط إلى تبني نوعين من السياسات المحفزة؛ السياسات الأولى هي السياسات النقدية، حيث نجد العديد من البنوك المركزية حول العالم خفّضت أو في سبيلها لتخفيض سعر الفائدة على الإقراض، وذلك لتشجيع الاقتراض للاستثمار والاستهلاك. فقد خفّض مجلس الاحتياط الفيدرالي (بنك الولايات المتحدة المركزي) سعر الفائدة بمقدار ربع نقطة مئوية خلال الشهر الماضي، ومن المنتظر أن يقر تخفيضا جديدا عند اجتماعه خلال الشهر الحالي. ومن المتوقع أيضا أن يقدم البنك المركزي الأوروبي على خفض سعر الفائدة على اليورو في المنطقة التي تضم 19 بلدا أوروبيا. وكانت البنوك المركزية في الصين والهند قد خفّضت أسعار الفائدة أيضا. إلى جانب ذلك هناك التدخل عبر ما يسمى سياسات السوق المفتوحة بشراء البنوك المركزية للأوراق المالية الحكومية وضخ المزيد من السيولة في الأسواق.
في جميع الأحوال يظل السبب الرئيسي وراء التباطؤ في النشاط الاقتصادي أو الركود ألا وهو الحرب التجارية في حاجة لحل حتى يمكن بشكل جذري تجنب الدخول في ركود اقتصادي ليس هناك أحد بحاجة إليه.
ولا يخلو أمر السياسات النقدية من بعض التعقيدات، خاصة في الدول الكبرى. ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال نجد أن الرسوم الجمركية المفروضة على الصين في إطار الحرب التجارية تدفع نحو زيادة أسعار المستهلكين وارتفاع معدلات التضخم وهو ما قد يحد من قدرة البنك المركزي على إجراء تخفيضات كبيرة في أسعار الفائدة لأنه يستهدف مستوى معينا من التضخم. هذا في الوقت الذي تطالب فيه الإدارة من مجلس الاحتياط الفيدرالي إجراء تخفيض كبير في سعر الفائدة حدده الرئيس الأمريكي بنقطة مئوية كاملة، في الوقت الذي يجري فيه المجلس تخفيضات تتراوح بين ربع ونصف نقطة مئوية. والواقع أن الرئيس الأمريكي وبعض أقطاب الإدارة الآخرين كوزير التجارة يرون ضرورة إجراء خفض كبير في سعر الفائدة حتى يمكن خفض سعر صرف العملة الأمريكية إزاء باقي العملات، وهو ما يعمل على زيادة الصادرات وخفض الواردات الأمريكية. أي الدعوة لممارسة انتقدت الولايات المتحدة الصين عليها؛ حيث قالت إن خفض سعر صرف العملة الصينية هو "تلاعب بالعملة" من أجل تحقيق مكاسب تجارية غير عادلة.
النوع الثاني من السياسات هو السياسة المالية، لا سيما سياسة التمويل بالعجز. وهي السياسة التي تستند إلى ضرورة حقن الاقتصاد بسيولة عبر الإنفاق الحكومي. وتقليديا كانت هناك بلدان لا تحبذ التمويل بالعجز لآثاره في رفع معدلات التضخم، وهي بلدان كانت ترى دائما ضرورة الحفاظ على توازن الميزانية وأول ما تدعو له من سياسات هو التقشف المالي. ويأتي على رأس هذه البلدان ألمانيا، إذ هناك ما يشبه "العقدة التاريخية" من انفلات معدلات التضخم كما حدث في فترة العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي أيام جمهورية فايمار وما ترتب على حالة الاضطراب الاقتصادي والسياسي من صعود الحزب النازي للحكم.
لكن وكما يقول الاقتصادي الأمريكي الحاصل على جائزة نوبل جوزيف ستيجلتز في كتابه "اليورو": فحتى لو كان المرء يعاني من هوس العجز المالي، فهناك سياسات مالية بإمكانها تحفيز الاقتصاد دون زيادة العجز الجاري. وهذه السياسات تستخدم مبدأ مضاعف الميزانية المتوازنة. فلو أنه تم فرض ضريبة ثم تم إنفاق كل الإيراد الناتج عن هذه الضريبة فسوف يتوسع الاقتصاد دون أن يكون هناك أي تغيير في مستوى عجز الموازنة. فالأثر التوسعي للإنفاق يفوق الأثر الانكماشي للضريبة. ولو تم اختيار مجالات الإنفاق بعناية -لنقل الإنفاق على المدرسين وليس على الحرب- وكذلك أيضا اختيار الضرائب بعناية يحدث ما يطلق عليه أثر المضاعف. والمضاعف هو تغير أولي في الطلب الكلي يكون له تأثير أكبر بكثير على مستوى الدخل القومي. فالمضاعف صيغة يتم فيها نسبة تغير أولي في الإنفاق إلى التغير الإجمالي الحادث في النشاط الاقتصادي بسبب هذا الإنفاق. وقد ابتكر هذا المفهوم الاقتصادي البريطاني كينز في كتابه "النظرية العامة للتشغيل والفائدة والنقود". ويعد المضاعف مفهوما مركزيا في الاقتصاد الكينزي حيث رأى كينز أن الإنفاق الحكومي في زمن الكساد وانخفاض الاستثمار يمكنه أن يؤدي إلى زيادات متتالية في الدخل القومي، حتى يتم القضاء على البطالة والوصول إلى التشغيل الكامل مرة أخرى. ويقوم المضاعف على أساس أن الزيادة في الإنفاق الحكومي تصبح دخلا للمستهلكين، وبعض هذا الدخل سيتم ادخاره بينما بعضه الآخر سينفق، ويعد الإنفاق دخلا للآخرين الذين يدخرون بدورهم بعضه وينفقون بعضه الآخر، وهكذا تستمر هذه الدورة في التكرار، وهو ما تنجم عنه زيادة في الدخل تتجاوز الزيادة الأولية في الإنفاق. فإذا كان إنفاق 100 دولار مثلا قد ترتب عليه زيادة في الدخل القومي بلغت 150 دولارا فإننا نقول إن قيمة مضاعف الإنفاق تبلغ 1.5.
وهكذا يمكن لمضاعف "الميزانية المتوازنة" أن يكون له تأثير أكبر بكثير على مستوى الدخل القومي، حيث إن الدولار من الإنفاق الإضافي يمكنه أن يستحث على زيادة تبلغ أكثر من دولار بكثير في الناتج المحلي الإجمالي. علاوة على ذلك، لو تم إنفاق المال على السلع الاستثمارية طويلة العمر، وهو ما يزيد من الإنتاجية، فسوف تضع الزيادة الناجمة عن الإيرادات الضريبية المستقبلية الموقف المالي طويل الأجل للحكومة في صورة أفضل. واللافت بالفعل هو أنه حتى ألمانيا أعلنت مؤخرا استعداد الحكومة للاقتراض من أجل حفز الاقتصاد، وقال وزير المالية الألماني إن بلاده لديها القدرة الاقتصادية على التدخل لمواجهة الركود، وهو ما يعني تخلي ألمانيا عن مبدأ الميزانية المتوازنة. وفي مجال السياسات المالية ذكر الرئيس ترامب أن إدارته تدرس خفض الضرائب على الأجور ولكن ليس الآن، ومن شأن مثل هذا الإجراء إتاحة المزيد من الدخول للإنفاق وهو ما يعمل على مكافحة تباطؤ النشاط الاقتصادي.
نخلص إذا إلى أن المزيج الملائم من السياسات النقدية والمالية قد يعمل على حفز الاقتصادات حول العالم، ويعمل على توسع النشاط الاقتصادي وتوقي الركود. لكن في جميع الأحوال يظل السبب الرئيسي وراء التباطؤ في النشاط الاقتصادي أو الركود ألا وهو الحرب التجارية في حاجة لحل حتى يمكن بشكل جذري تجنب الدخول في ركود اقتصادي ليس هناك أحد بحاجة إليه.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة