الخلاف بين ترامب والمخابرات الأمريكية على السياسة الخارجية الأمريكية في التعاطي مع إيران هو خلاف عميق يتجاوز حتى صلاحيات مدير الجهاز
الجهة التي أقنعت باراك أوباما بالتغاضي عن تمادي الإرهاب الإيراني حتى وصوله لعقر الولايات المتحدة هي ذاتها من يحاول الآن تعطيل أو تخفيف قرارات ترامب التي تتصدى للإرهاب الإيراني في كثير من المناطق في عالمنا العربي، وهي ذاتها التي تسترت على النظام القطري، وهي التي دفعت ماتيس لتقديم استقالته اعتراضا عليها!
كثيرة هي المواقف التي نرى فيها كيف يقف هذا الجهاز ضد ترامب وتقف معه فلول الإدارة الأمريكية السابقة وبقية المعسكر اليساري الغربي من الديمقراطيين الذين ما زالوا يهيمنون عليه، وهؤلاء لهم رؤية مختلفة عن ترامب في مواجهة إيران
ما ذكره وزير الدفاع الأمريكي الأسبق جيمس ماتيس في كتاب جديد له تحت عنوان «استدعاء إشارة فوضى.. تعلم تولي القيادة» أن سبب تقديمه استقالته هو خلافه بصفته قائدا لهيئة الأركان الأمريكية مع رئيس الولايات المتحدة «أوباما»، حينذاك حول ردة الفعل غير المناسبة مع إيران، يؤكد حقيقة صراع الدوائر الأمريكية الذي قد يصل لحد التناقض بين جهات صناعة القرار، فالعسكر متمثلا في وزارة الدفاع اختلف هذه المرة مع الإدارة الأمريكية التي مالت للاستماع لجهاز آخر.. فمن ذلك الجهاز؟
علينا أن ننظر إلى الداخل الأمريكي وصراع بعض الأجهزة الأمنية مع بعضها الآخر، إن أردنا أن نفهم حقيقة تناقض أو تضارب السياسية الخارجية الأمريكية في أحيان كثيرة، وفي عهود بعض الرؤساء تزداد حدة هذا الصراع أكثر من غيرهم.
فالخلاف في عهد الرئيس أوباما ومن بعده ترامب بين تلك الدوائر يبدو جليا، حيث يتصارع تياران أمريكيان لهما امتداد غربي خارج حدود الولايات المتحدة، لهما وجهتا نظر متناقضتان في كثير من الملفات؛ أحدها السياسية الخارجية، كل منهما يسيطر على دائرة محددة وعلى جهاز دون الآخر، ويأتي على رأس تلك الأجهزة المهمة والمؤثرة على البيت الأبيض جهاز الاستخبارات المركزية «سي آي إيه» الذي يمثل وجه الدولة الأمريكية العميقة، وكثيرا ما اختلف وتعارض مع أكثر من إدارة وله صلاحيات تخطت في أحيان كثيرة صلاحيات الرئيس! هل تعتقدون أن في الأمر مبالغة؟ وعلى العموم صراع الرؤساء الأمريكيين الذين توالوا على الحكم مع جهاز المخابرات الأمريكي قديم قدم اغتيال جون كيندي الذي هدد بتفكيكه إلى «قطع تذروها الرياح» فقتل، واستمر الصراع إلى يومنا هذا!
والبعض يعود بالصراع إلى الفترة التي تبعت انتهاء الحرب العالمية الثانية وامتلاك الولايات المتحدة سلاحا نوويا، حيث تصارعت الأجهزة على مراكز النفوذ، وتأتي فترات يغلب فيها قرار هذا الجهاز على قرار أجهزة أخرى كهيئة الأركان أو وزارة الدفاع، كما حدث في فترة الرئيس باراك أوباما، وذلك ما ذكره ماتيس وزير الدفاع السابق في كتابه.
أما صراع الرئيس الأمريكي ترامب مع هذا الجهاز فمعلن على عكس غيره من الرؤساء، وهذا هو ترامب عموما - غير بقية الرؤساء لا يعترف ببروتوكولات البيت الأبيض - فقد كتب عبر صفحته الرسمية على موقع «تويتر» في بداية هذا العام: «يبدو أن رجال المخابرات يتعاملون بسلبية وسذاجة مع الخطر الإيراني، هم على خطأ، عندما أصبحت رئيسا، كانت إيران تخلق المشاكل في الشرق الأوسط وخارجه، ومنذ أن أنهينا الاتفاق النووي الإيراني تغير سلوكهم ولكن..».. ثم أضاف في تغريدة أخرى: «ربما على المخابرات الأمريكية أن تعود للمدرسة»!!
ولا ننسى العاصفة التي آثارها ترامب حين ألغى التصريح الأمني لمدير سي آي إيه في أغسطس/آب من العام الماضي، وشن 12 مديرا سابقا للاستخبارات المركزية الأمريكية، وعدد آخر من كبار عناصرها، «حربا» على الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حينذاك، حيث أدانوا عبر توقيعهم على بيان مشترك إلغاءه التصريح الأمني لمدير سي آي إيه السابق جون برينان، واعتبر الموقعون على البيان أن ما فعله ترامب «ما هو إلا محاولة لخنق حرية التعبير». (فرانس 24).
الخلاف بين ترامب والمخابرات الأمريكية على السياسة الخارجية الأمريكية في التعاطي مع إيران هو خلاف عميق يتجاوز حتى صلاحيات مدير الجهاز، وهو أكثر أوجه الخلاف بروزا بين الطرفين، ويليه اختلافه معهم حول الملف الروسي، ففي هذين الملفين كان مايك بومبيو وزير الخارجية الحالي يقف مع ترامب ويميل لوجهة نظره حين كان رئيسا للجهاز، ومع ذلك لم يتمكن من التغلب على عمق الجهاز، حتى اتهم بمحاباة الرئيس، ولذلك نقله ترامب بالقرب منه وعينه وزيرا للخارجية خلفا لتيلرسون الذي كان يميل لرأيهم.
كثيرة هي المواقف التي نرى فيها كيف يقف هذا الجهاز ضد ترامب وتقف معه فلول الإدارة الأمريكية السابقة وبقية المعسكر اليساري الغربي من الديمقراطيين الذين ما زالوا يهيمنون عليه، وهؤلاء لهم رؤية مختلفة عن ترامب في مواجهة إيران، فهم من مدرسة (احتواء إيران لا مواجهتها) ولهم وجهة نظر في الأنظمة العربية والملكية منها تحديدا، وعلى استعداد للتحالف مع الجماعات الإسلامية في هذه المنطقة ومن يمولها (قطر وتركيا وإيران)، ويخططون للعودة في الانتخابات الأمريكية القادمة!
نقلاً عن "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة