تلويح ترامب بالانسحاب من الاتفاقية النووية مع روسيا يثير مخاوف الأوروبيين بشأن أمنهم.
تشعر أوروبا بالاختناق بين القوى الثلاث الكبرى: الولايات المتحدة وروسيا والصين، ومرد ذلك يعود إلى تعاظم هذه البلدان وتراجع أوروبا أمامها، فهل يكفي مواجهتها بالثقافة واللغة والفرانكفونية والعراقة؟ أم أن الصراع تحول من ميدان إلى آخر؟ هذا التراجع امتد إلى اللغة ذاتها، حيث هناك تقلص للغات الأوروبية أمام اجتياح اللغة الإنجليزية، حتى أن أحد الوزراء الفرنسيين اعترض على قلة وجود المترجمين للغات الأوروبية في مقر الاتحاد الأوروبي في بروكسيل.
إن تلويح ترامب بالانسحاب من الاتفاقية النووية مع روسيا يثير مخاوف الأوروبيين بشأن أمنهم، وغيرها من الانسحابات وفّر أرضية خصبة للتوجه نحو التفكير بتأسيس جيش أوروبي موحد، وما دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤخرا إلى إنشاء "جيش أوروبي حقيقي"، للدفاع عن القارة في مواجهة روسيا والصين والولايات المتحدة، إلا أحد هذه الأسباب. "لن نحمي الأوروبيين ما لم نقرر أن يكون لنا جيش أوروبي حقيقي".
على أوروبا أن تبحث عن وسائل أخرى غير تأسيس جيشها، بل في إعادة الأمريكيين إلى حضيرة القيم المشتركة التي لا تعمل على تأجيج الخلافات وتشكيل الجيوش الإضافية، بل في نشر قيم السلام والتفاهم والمعاهدات.
يبدو أن أوروبا لم تعد تعتمد على القوة الأمريكية في دفاعها، ما حدا بها للتفكير جديا بتأسيس قوتها الخاصة للدفاع عن نفسها.
هل ستكون أوروبا وأمنها ضحية انسحاب ترامب من اتفاقية أزمة الصواريخ في أوروبا، التي عقدت في الثمانينيات؟
وعلى هذه الخلفية، أسس الاتحاد الأوروبي صندوقا دفاعيا بمليارات عديدة من اليوروات، بهدف تطوير قدرات أوروبا العسكرية وتعزيز استقلالها الاستراتيجي. نواة هذه القوة تسعة بلدان تكون قادرة على التحرك سريعا في تنفيذ العمليات العسكرية، وتقديم الإغاثة، والإجلاء من مناطق الحرب.
هل سيؤثر ذلك على حلف شمال الأطلسي؟
نحن نعيش في عالم متوتر، يحتّم تشكيل الجيوش التي تدافع عن بلدانها، لأنه لم يعد التكهن بالأزمات المستقبلية معلوما. ولعل من إرهاصات هذا المشروع معاهدة لشبونة عام 2009 التي حثّت على تشكيل هذه القوة الأوروبية العسكرية، وقد لقيت معارضة بريطانيا. لا شك أن تأسيس ما يمكن أن نطلق عليه "الجيش الأوروبي"، يثير الخلافات مع الحلف الأطلسي، والتنافس بينهما، بسبب وجهات النظر المتعددة، في مسائل التمويل والإنفاق. وقد ازداد ذلك بنسبة 2% من إجمالي ناتجها الداخلي بحلول 2024.
تشعر أوروبا بأن السلام فيها يعاني من الهشاشة، خصوصا بعد اقتحام نظمها الإلكترونية، ولعل المناسبة التي أعلن فيها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تأسيس القوة الأوروبية العسكرية ترافق مع ذكرى الجنود الذين قتلوا أثناء الحرب العالمية الأولى، ما يكسبها معاني رمزية قوية في استعادة حروب أوروبا الخاسرة.
مما لا شك فيه، إن قرار تشكيل قوة أوروبية عسكرية يستجيب إلى روحية الأحزاب اليمينية المتطرفة التي تدعو على الدوام إلى تأجيج المخاوف، ما يؤثر على القيم والمبادئ الديمقراطية، ويهيئ الأرضية الخصبة للدخول في مغامرات عسكرية ستكون نتائجها خطيرة على العالم. أوروبا متخوفة من تفكيك اتحادها وخروج بلدانها من منطقة اليورو، وهي تهديدات خطيرة بعد أن عاشت أوروبا عقودا عديدة في سلام وازدهار.
والسؤال المطروح هو: هل يتمكن الجيش الأوروبي المُزمع تشكيله من تهدئة التوترات أم يؤدي إلى نتائج عكسية؟
الجواب عند الأمريكيين، إذ باستطاعتهم أن يقللوا من المخاوف الأوروبية من خلال اتفاقيات وعقود تضمن مبادئ السلام في القارة العجوز، بدلا من الانسحابات العديدة من عدد من الاتفاقيات والعقود، التي أدت إلى إثارة الرعب في نفوس الأوروبيين. إن عدم اعتماد أوروبا على الولايات المتحدة من أجل ضمان أمنها من شأنه أن يؤجج نزعة التعسكر والتخندق وراء طبول الحرب. ومما لا شك فيه، إن أوروبا هي أولى الضحايا من الانسحابات الأمريكية المتتالية.
هناك تأثيرات خارجية على الديمقراطية، واشتداد التسلح على تخوم أوروبا، والمعاناة من النزاعات والانشقاقات الجانبية، وزعزعة الطبقات الوسطى، كلها عوامل تُدخل الخوف إلى نفوس الأوروبيين. لذلك نرى التقارب الحاصل بين ألمانيا وبلجيكا وبريطانيا والدنمارك وإستونيا وهولندا وإسبانيا والبرتغال في موافقتها على المبادرة الفرنسية التي تركز على التعاون بين الدول الأعضاء، فيما يتعلق بالتخطيط وتحليل الأزمات والاستجابة العسكرية لتلك الأزمات. وبمرور الزمن، وبعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والحرب في أوكرانيا، أخذت القضية زخما أكثر من أي وقت آخر.
هل أصبحت اتفاقية التعاون الهيكلي الدائم بين الدول الـ28 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، نواة لـ"الجيش الأوروبي" المستقبل؟
لا تزال أوروبا تعاني من الإشكاليات اللغوية والثقافية فيما بينها، إضافة إلى التنوع وحجم التكلفة بين بلد أوروبي وآخر، وإذا ما تم السكوت عن كل التناقضات، فلا بد لها من الخروج في ظروف مناسبة.
هل تغامر أوروبا بفكرة تأسيس جيشها الأوروبي أمام القوى الثلاث الكبرى؟
نحن نعلم أن هذا الجيش سيواجه اختلافات في العقلية الأوروبية، وذلك يعود إلى تاريخ وسجل كل دولة من هذه الدول. فالأوروبيون غاضبون من ترامب في مجالات عديدة: العملة والتجارة والضرائب. وتعتقد أوروبا أن خرق الولايات المتحدة للاتفاقيات يشكل تهديدا لاقتصادها الأوروبي، وهناك حرب تجارية خفية بين واشنطن وبروكسل، وتكمن المشكلة في أن أوروبا غير قادرة على مسايرة نهج الولايات المتحدة في التنافس التجاري، وتخفيض سعر الدولار، وزيادة صادراتها، وغيرها من الإجراءات التي لا يمكن لأوروبا أن تطبقها.
يبدو أن ميزان القوة الجيوسياسي يلعب دورا كبيرا في هذه القضية، فمن ناحية روسيا غائبة عن جيرانها، ولا توجد تفاهمات معها، لذلك تجد أوروبا نفسها ضعيفة في مواجهة القوى الثلاث الكبرى. على الرغم من أن هناك قيما مشتركة بين أوروبا وأمريكا، وقد دافع عنها عدد من رؤساء أمريكا أمثال جون كنيدي ورونالد ريغان، إلا أن ترامب خيّب آمال الأوروبيين، لذا على أوروبا أن تبحث عن وسائل أخرى غير تأسيس جيشها، بل في إعادة الأمريكيين إلى حضيرة القيم المشتركة التي لا تعمل على تأجيج الخلافات وتشكيل الجيوش الإضافية، بل على نشر قيم السلام والتفاهم والمعاهدات.
ليبقى السؤال المؤرق للجميع: هل أوروبا بحاجة إلى نابليون جديد؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة