يبقى تهجير الفلسطينيين من أرضهم على ما يبدو حلما لا يزال قائما في المخيلة الإسرائيلية، ينتظر الذريعة المناسبة واللحظة المواتية وأي مناسبة تلقائية أو مفتعلة للشروع في تطبيقه من خلال مؤسسته العسكرية ومؤسساته السياسية.
وما كان يبدو هواجس أو مخاوف أو شكوكًا للبعض أصبح الآن أقرب إلى الحقيقة، وما كان يتم بحثه كأفكار في الغرف المغلقة أصبح الآن يُطرح علنا للنقاش كسياسات واستراتيجيات ويتم تداوله على ألسنة كبار القادة والمسؤولين على مستوى الإقليم والعالم، رفضا، أو تأييدا أو تنديدا أو تحذيرا أو تخوفا.
ومع دخول الحرب في غزة شهرها الثالث وإجبار نحو 85% من سكان القطاع لترك منازلهم والنزوح نحو أقصى جنوبه على الحدود المصرية، مع استمرار الآلة العسكرية الإسرائيلية بكل دأب ومنهجية في إفراغ الشمال مما تبقى من سكانه باستهدافهم عسكريا وحصارهم وتجويعهم، أصبح الحديث عن تجدد فكرة الوطن البديل لفلسطيني غزة في سيناء المصرية المتاخمة أشبه بالحقيقة التي لم يرفضها أو يدينها فقط الجانب المصري المعني بها، والذي كان أول من حذر منها باعتبارها ليست فقط تهديدا صريحا ومباشرة للأمن القومي المصري، بل أيضا تصفية للقضية الفلسطينية.
وضع حذر منه وأدانه عدد كبير من المنظمات الدولية، وعلى رأسها المنظمة الأهم، الأمم المتحدة، التي كانت شاهدا تاريخيا على كافة محطات الصراع العربي الإسرائيلي منذ النكبة الأولى عام 1948 التي شهدت تحول أكثر من نصف سكان فلسطين.
إلا أن النكبة الثانية تبدو أكثر خطورة فإذا كانت الأولى شرد وطرد فيها أكثر من 760 ألف فلسطيني يتوزعون على أكثر من بقعة جغرافية في عدد كبير من الدول، فإن النكبة الثانية التي تطل برأسها تستهدف توطين أكثر من ضعف هذا العدد في بقعة جغرافية واحدة في دولة واحدة، مع ما سيخلقه هذا الوضع من مخاطر وتحديات ديمغرافية وجيوسياسية وتهديدات صريحة للأمن القومي المصري، وإعلان صريح بتصفية ما تبقى من القضية الفلسطينية، وتشجيع على تكرار الأمر إذا نجح مع فلسطيني الضفة الغربية وتهجيرهم إلى الأردن.
ولعل هذا ما دفع مسؤولين أمميين إلى إطلاق تحذير من احتمال تهجير سكان القطاع إلى مصر، في ظل نزوح غالبيتهم وتوغل القوات الإسرائيلية داخل القطاع المحاصر، حيث حذر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، أثناء تواجده في قطر الأحد الماضي، من "تزايد الضغط من أجل النزوح الجماعي إلى مصر".
فيما كرر المفوض العام لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) فيليب لازاريني ذلك، متهما إسرائيل بتمهيد الطريق لطرد سكان قطاع غزة جماعيا إلى مصر عبر الحدود، مشيرا في مقال رأي نشرته صحيفة لوس أنجلس تايمز قبل أيام إلى أن "التطورات التي نشهدها تشير إلى محاولات لنقل الفلسطينيين إلى مصر".
كما قال مفوض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين فيليبو غراندي الأربعاء في جنيف إن "من الأهمية بمكان التشديد على عدم الترويج لعملية إجلاء السكان هذه وعدم التشجيع عليها أو فرضها".
قد تكون مخاوف وتحذيرات أهم المنظمات الدولية على الإطلاق والوكالات التابعة لها مفهومة في سياق الموقف الإنساني الأخلاقي والحازم الذي اتخذه أمينها العام منذ بداية العملية العسكرية الإسرائيلية في القطاع، وقد يفهم أيضا في التحول الملموس في موقف الأمانة العامة للمنظمة تجاه القضية الفلسطينية منذ توليه منصبه، والذي ترجم في إحياء المنظمة لذكرى "النكبة" لأول مرة في تاريخها في مقرها في نيويورك في مايو/أيار الماضي.
لكن ما لا يبدو مفهوما أو مستساغا هو موقف حركة حماس نفسها من هذا المخطط، فالخطورة التي أدركتها مصر والأردن والسلطة الوطنية الفلسطينية والأمم المتحدة ووكالتها والكثير من القادة والمسؤولين غير المعنيين بشكل مباشر بالصراع، لم تدركها أو تعيها الجهة المسؤولة بحكم الأمر الواقع عن القطاع والمسؤولة بشكل أو بآخر عما حدث، والمعنية بما سيحدث، لذا كان صادما لكن قد يكون مفهوما وكاشفا، تصريح المتحدث باسم حركة حماس أسامة حمدان، والذي قلل فيه من مخاطر مخطط إسرائيل الساعي لتهجير سكان قطاع غزة، وقوله نصا: "لا أحد يتخيل أن صحراء سيناء ستبتلع الفلسطينيين، على العكس تماما ستكون منطقة الحدود هي قاعدة مقاومة أكثر رسوخا باتجاه الاحتلال".
لا يختلف هذا التصريح في مضمونه وفحواه ونتائجه وإن اختلفت الكلمات عن تصريحات لوزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، أيد فيها "خطة هجرة طوعية للاجئي غزة".
خطورة تصريح أسامة حمدان ليست فقط في أنه يعكس تماهيا في المواقف بين الطرفين، إسرائيل وحماس في توطين سكان غزة في سيناء؛ فالأول يرغب ويسعى والثاني لا يمانع، لكن الأكثر خطورة هنا هو أن الطرف الثاني بدأ يفكر جديا في كيفية استخدام الأراضي المصرية كمنطلق لمحاربة إسرائيل، وهذا ما أدركه وتحدث عنه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي منذ بداية الأزمة حينما قال في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، خلال استقباله المستشار الألماني أولاف شولتز، "إن تهجير الفلسطينيين إلى سيناء يعني نقل القتال إليها وستكون قاعدة لضرب إسرائيل، مضيفا أن حصار قطاع غزة هدفه في النهاية نقل الفلسطينيين إلى مصر".
وهنا فإن ما رفضته حتى الولايات المتحدة الأمريكية علنا على لسان كبار مسؤوليها ومن بينهم رئيسها ونائبته ووزير دفاعها، قبلته حماس ضمنا، ولهذا التصريح بالتأكيد ما بعده حتى وإن تم التراجع عنه، ولهذا الحديث بقية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة