رغم محاولة الولايات المتحدة الابتعاد عن التزود بالنفط من منطقة الشرق الأوسط إلا أن تزايد استهلاكها أعادها للاعتماد على المنطقة
كانت الولايات المتحدة هي أول دولة يكتشف ويستخرج منها النفط في العالم في العصر الحديث، وظلت لفترة طويلة أكبر منتج عالمي، استمرت تحقق لفترة طويلة اكتفاء ذاتيا من مواردها المحلية، إلا أنها انتقلت تدريجيا مع زيادة استهلاكها إلى اللجوء للخارج لسد جزء كبير من احتياجاتها، وقد تزايدت هذه الاحتياجات تدريجيا بدءا من سبعينيات القرن الماضي وبشكل سريع للغاية، وكمثال على ذلك نجد أن الواردات الأمريكية الإجمالية الصافية من النفط الخام والمنتجات (أي الواردات الإجمالية بعد خصم الصادرات الإجمالية من النفط الخام والمنتجات) زادت من 4.286 مليون برميل يوميا عام 1985 أي نحو 27.3% من جملة الاستهلاك إلى 10.05 مليون برميل يوميا في عام 2000، مثلت نحو 51.6% من الاستهلاك، وبلغت الواردات الصافية ذروتها في عام 2005 بنحو 12.549 مليون برميل يوميا (ما يقرب من 60% من جملة الاستهلاك).
يمكن القول إنه رغم محاولة الولايات المتحدة الابتعاد عن التزود بالنفط من منطقة الشرق الأوسط إلا أن تزايد استهلاكها واستمرار تدهور معدلات إنتاجها المحلي أعادها للاعتماد على المنطقة لسد جزء كبير من احتياجاتها، خاصة في الألفية الجديدة وحتى أعوام قليلة خلت
وحاولت الولايات المتحدة جاهدة (خاصة بعد عام 1973) تخفيف اعتمادها على نفط منطقة الشرق الأوسط؛ حيث بلغت وارداتها منه نحو 502 ألف برميل يوميا فقط في عام 1985 (نحو 11.7% من صافي الواردات). وحدث ذلك بتنويع مصادر إمدادات أمريكا من النفط طوال الوقت بعيدا عن الشرق الأوسط، وترتب على ذلك زيادة الاعتماد أكثر على المصادر المتوافرة في نصف الكرة الغربي (كندا - المكسيك – فنزويلا - كولومبيا)، إلى جانب نيجيريا في أفريقيا، إلا أنها لم تستطع الاستمرار في هذا الاتجاه طويلا نتيجة زيادة استهلاكها، ومن ثم زيادة وارداتها في الوقت الذي لم تستطع فيه المصادر المذكورة مواكبة هذه الزيادة في الاستهلاك، فقد قفزت الواردات الأمريكية من منطقة الشرق الأوسط لتسجل 2.883 مليون برميل يوميا عام 2000 (تشكل 25.7% من صافي الواردات) ثم 3.309 مليون برميل يوميا (تشكل 30.35% من صافي الواردات) عام 2001، ورغم انخفاض الواردات من الشرق الأوسط إلى 3.021 مليون برميل يوميا عام 2008 إلا أنها شكلت نحو 30.9% من صافي الواردات نتيجة انخفاضه إلى 9.764 مليون برميل، بأثر انخفاض الاستهلاك مع نشوب الأزمة المالية والاقتصادية العالمية.
أضف إلى هذا كله أن الاتجاه للاعتماد على نصف الكرة الغربي اتجه بدوره للتعقد مع تضاؤل كمية الإنتاج في المكسيك وتراجع صادراتها، ثم الخلافات التي تصاعدت مع فنزويلا مع صعود الرئيس اليساري الراحل هوجو شافيز لحكم فنزويلا منذ عام 1999، وباختصار يمكن القول إنه رغم محاولة الولايات المتحدة الابتعاد عن التزود بالنفط من منطقة الشرق الأوسط إلا أن تزايد استهلاكها واستمرار تدهور معدلات إنتاجها المحلي أعادها للاعتماد على المنطقة لسد جزء كبير من احتياجاتها، خاصة في الألفية الجديدة وحتى أعوام قليلة خلت.
النفط الصخري
لقد اتخذت الأمور اتجاها آخر مفاجئا مع تزايد إنتاج الولايات المتحدة من النفط الصخري، وتغطية المزيد من احتياجاتها للنفط من إنتاجها المحلي؛ إذ انخفضت كمية وارداتها من نحو 60% من استهلاكها الكلي في عام 2005، لتصل إلى أقل من 13% حاليا. حيث بلغ صافي الواردات الإجمالية الأمريكية من النفط الخام والمنتجات نحو 3.77 مليون برميل يوميا في عام 2017، وكانت الواردات من منطقة الخليج العربي منها تبلغ 1.75 مليون برميل فقط، ويقدر أن إجمالي الواردات الصافية الأمريكية استمرت في الانخفاض في العام الماضي لتبلغ نحو 2.56 مليون برميل يوميا، ومع هذا الانخفاض الشديد في الواردات باتت هناك الكثير من الكتابات التي تذهب إلى فقدان منطقة الشرق الأوسط لأهميتها الاستراتيجية للولايات المتحدة، وهو ما يكمن خلف ما يطلق من دعاوى للانسحاب الأمريكي من المنطقة.
ولكن على الرغم من ذلك رغبة الولايات المتحدة في الابتعاد عن الشرق الأوسط، إلا أن تحويل هذا إلى واقع يعد أمراً صعباً، فالمنطقة للولايات المتحدة ليست نفطا فقط، بل هي سوق كبيرة أيضا للمنتجات الأمريكية وتزداد أهميتها مع تصاعد الحرب التجارية التي أطلقتها الولايات المتحدة، حيث ستكون حريصة على حماية أسواق منتجاتها أكثر من السابق مع تأثر صادراتها إلى وجهات أخرى.
أما على المستوى المتعلق بالنفط، فإنه من المهم الإشارة إلى عدد من التحفظات حول ما يصدر من أحكام بصدد انسحاب الولايات المتحدة من المنطقة، فبعض دول المنطقة ما زالت من بين أهم البلدان التي تمد الولايات المتحدة بحاجاتها النفطية؛ إذ احتلت المملكة العربية السعودية المرتبة الثانية بعد كندا كأكبر مزود نفطي للولايات المتحدة، بمستوى صادرات صافية بلغت 950 ألف برميل يوميا في عام 2017.
ربما أيضا من التحفظات المهمة الإدراك بأن ثورة إنتاج النفط الصخري لن تستمر للأبد؛ حيث تذهب أغلب التقديرات إلى أن ذروة إنتاج النفط الصخري في الولايات المتحدة ستحدث في وقت ما حول منتصف العقد المقبل، ليعود الإنتاج بعدها للانخفاض، وهو ما يرتب العودة لتزايد حاجة الولايات المتحدة للواردات لتغطية استهلاكها.
ومما لا شك فيه أن تصاعد إنتاج الولايات المتحدة من النفط كان ذا أثر إيجابي على الاقتصاد الأمريكي، حيث قللت من العجز التجاري، ورفع معدل التوظيف، ودعم من النمو الاقتصادي الكلي، وعلاوة على ذلك فقد انعكست زيادة الإنتاج الأمريكي في شكل انخفاض حاد في واردات النفط الأمريكية، وأدت أيضا إلى زيادة العرض العالمي ومارست ضغوطا تراجعية على أسعار النفط العالمية، لكن رغم كل ما سبق يشير بعض المحللين إلى أنه يظل بوسع أي اضطراب في تدفق النفط من أي دولة منتجة كبيرة أن يؤدي إلى أسعار أعلى وإبطاء النمو الاقتصادي حول العالم وفي الولايات المتحدة، وستظل الولايات المتحدة تدفع السعر العالمي أيا كانت الدولة التي تستورد النفط منها، ويمكن بالتالي لأي اضطرابات في الإمدادات من الشرق الأوسط، أو أي من المنتجين الآخرين الكبار أن تدفع هذا السعر العالمي لأعلى فورا، لذا يظل الحفاظ على تدفق النفط بسلاسة من المنطقة مصلحة اقتصادية أمريكية مباشرة لإبقاء الأسعار ضمن مدى مقبول لديها.
كما يشير البعض إلى أن التأكد من أن نفط المنطقة لن يقع في أيد غير صديقة -أو يتوقف عن التدفق كلية- سوف يبقى مصلحة جوهرية، طالما أن أمريكا والعالم مستمران في الاعتماد على الهيدروكربونات، وقد استطاعت الولايات المتحدة لفترة طويلة من الوقت الاستفادة من هذا الموقف، إذ كانت تشير دوما إلى أنها تتولى حماية التدفق الحر للنفط لمصلحتها ومصلحة حلفائها الأوروبيين، ومن أجل حرمان أعداء الغرب (روسيا والصين وغيرهما) من الهيمنة على المورد الذي يمكنه أن يؤثر على مختلف أوجه الحياة ويشل الحركة الاقتصادية في الغرب.
إلى جانب هذا البعد الاستراتيجي/الاقتصادي هناك بالطبع مصلحة اقتصادية صافية لبعض من أهم الشركات النفطية الأمريكية الكبرى التي تعمل في حقول النفط والغاز في المنطقة، مثل إكسون موبيل، وشيفرون، وهاليبرتون وغيرها.
وهناك أيضا إلى جانب ذلك كله المصلحة الاقتصادية الأمريكية الحيوية المتمثلة في الدور الذي يلعبه الدولار كعملة احتياطي دولي، ويشير البعض إلى أهمية تسعير النفط بالدولار في تعزيز هذا الدور والحفاظ عليه، وهو أمر في غاية الأهمية خاصة في وقت تتدهور فيه المكانة الاقتصادية النسبية للولايات المتحدة دوليا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة