وفقا للرئيس الأمريكي تمضي المحادثات التجارية بين الولايات المتحدة والصين بشكل جيد جدا وهو ما أشاع جوا من التفاؤل في الاقتصاد العالمي
وفقا للرئيس الأمريكي تمضي المحادثات التجارية بين الولايات المتحدة والصين بشكل جيد جدا، وهو ما أشاع جوا من التفاؤل في الاقتصاد العالمي، ووفقا للرئيس ترامب أيضا قد يتم مد مهلة التفاوض لما بعد الأول من مارس المقبل، إذا ما كان هناك تأكيد على قرب التوصل لاتفاق بين الجانبين.
كأن الولايات المتحدة انتقلت هنا من موقف الدفاع إلى موقف الهجوم، فلم يعد الأمر يقتصر على مطالبة الصين بعدم دعم شركاتها خاصة في مجال البحث العلمي والتكنولوجيا، بل انتقلت واشنطن إلى الإعلان عن دعم شركاتها في المجالات التكنولوجية المتقدمة
والواقع أن انعكاسات مثل هذه التصريحات تعد كبيرة؛ لأن قضية الحرب التجارية بين واشنطن وبكين تشمل بلدان العالم كافة وليس فقط البلدين. فبحكم حجم الاقتصاد وشغل البلدين مكانة أكبر اقتصادين في العالم، وأيضا أكبر قوتين تجاريتين، يمتد أثر الحرب التجارية بينهما إلى عدد كبير من البلدان والسلع، ويبدأ هذا ببلدان كبيرة مثل ألمانيا واليابان صاحبتي أكبر فائض تجاري في العالم؛ حيث إن تجارتهما مع البلدين (خاصة صادراتهما) تشغل النسبة الأكبر قياسا ببقية بلدان العالم، كما أن هذا الأثر لا ينتهي عند بلدان صغيرة تصدر بعض السلع الأولية لهما خاصة للصين، إذ بحكم حجم الواردات الصينية من سلع أولية رئيسية مثل النفط الخام أو النحاس أو الحديد الخام، ينعكس أي انخفاض في الطلب الصيني فورا في هيئة انخفاض في أسعار هذه السلع، والعكس بالعكس.. أي ينعكس أي توقع بارتفاع الطلب الصيني في شكل ارتفاع فوري في أسعارها في الأسواق العالمية، لذا فأنباء تحقق تقدم في المفاوضات التجارية يعد أمرا جيدا لبلدان العالم كافة.
عقدة المفاوضات
على الرغم من أنه لم يتم الإفصاح حتى الآن عن أي شيء يتعلق بمحتوى المفاوضات، إلا أن مطالب كل طرف من الآخر ما تزال على ما هي عليه، فالولايات المتحدة ما زالت تستهدف ثلاثة أهداف رئيسية: الهدف الأول هو خفض العجز التجاري الضخم في تعاملاتها مع الصين، والذي زاد على 375 مليار عام 2017، ومن المقدر أن يكون قد زاد على 400 مليار دولار في العام الماضي. والهدف الثاني هو زيادة الصادرات الأمريكية خاصة من بعض السلع للصين، والثالث وهو مربط الفرس هو محاولة تحجيم قدرة الصين على التحول لاقتصاد صناعي متقدم يتخصص في تصنيع وتصدير السلع التي تستند على التكنولوجيا الراقية وفقا لاستراتيجية صنع في الصين 2025.
وتسعى الولايات المتحدة لتحقيق هدفها الثالث، والذي يعد العقدة الحقيقية للمفاوضات عبر الضغط، للمطالبة بتغيير بعض السياسات الصينية مثل فتح السوق الصينية دون تمييز أمام الشركات الأجنبية الراغبة في العمل في السوق الصينية، ودون إجبار هذه الشركات على إفشاء أسرارها التكنولوجية لشركائها الصينيين، كما تضغط من أجل إيقاف الصين لما تراه واشنطن انتهاكا لحقوق الملكية الفكرية للمنتجات الأمريكية، وكذا التوقف عن التجسس الصناعي وسرقة الأسرار التكنولوجية الأمريكية، وربما الأكثر أهمية في هذا السياق هو الضغط من أجل تخلي الصين عن سياستها الصناعية التي تستند على دعم قوي من قبل الدولة للشركات، وبالذات عبر التدخل الحكومي المباشر في الإشراف على وتمويل مجالات البحث العلمي والتطوير التكنولوجي الذي تعتقد الولايات المتحدة وشركاء تجاريون آخرون للصين أنه يمثل انتهاكا لقواعد التجارة الدولية، إذ يوفر مثل هذا الدعم فرصا للشركات الصينية كي تصبح أكثر تنافسية بشكل مصطنع لا يستند حقيقة لجدارتها الإنتاجية؛ حيث تذهب مبادئ التجارة الدولية إلى أن التجارة الحرة تزيد من مستوى الرفاهية في البلدان كافة التي تتبناها، نتيجة التخصص وتقسيم العمل، حيث تميل البلدان التي تتمتع بوفرة في عنصر العمل للتخصص في إنتاج السلع التي تتطلب عمالة كثيفة في إنتاجها، بينما تتخصص الدول ذات الوفرة في رأس المال في إنتاج السلع كثيفة رأس المال (أو كثيفة التكنولوجيا)، وعبر التجارة وتبادل كلا النوعين من السلع تزيد كل من مجموعتي البلدان من رفاهتها عما لو قامت بإنتاج كلا النوعين من السلع بنفسها.
من الدفاع إلى الهجوم
والواقع أنه في محيط هذا الهدف الثالث، والذي يعد الأكثر أهمية للولايات المتحدة وعدد من الشركاء التجاريين الآخرين للصين في البلدان المتقدمة يجانب هذه البلدان الصواب أكثر، خاصة ما يتعلق بالسياسات الصناعية؛ إذ كما أشرنا في مقال سابق إلى أن الدول كافة تقدم في الحقيقة مثل هذا الدعم الحكومي وتحديدا في مجال البحث العلمي والتكنولوجيا، كما أنه من الصعب وضع قواعد يمكن بناء عليها تحجيم هذا الدعم، كما سيكون من الصعب جدا مراقبة مدى الالتزام بهذه القواعد إذا ما تم وضعها، وليس أدل على ذلك مما ذكره مسؤول كبير في الإدارة الأمريكية من أن الرئيس ترامب سيوقع يوم الإثنين أمرا تنفيذيا يطلب من الوكالات الاتحادية تخصيص مزيد من الموارد والاستثمارات للبحث والتدريب في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي ودعم هذا المجال، وتشير وكالة رويترز للأنباء إلى أنه بموجب المبادرة الأمريكية للذكاء الاصطناعي فإن الإدارة ستوجه الوكالات لمنح الأولوية للاستثمار في الأبحاث وجهود التطوير الخاصة بالذكاء الاصطناعي وزيادة إمكانية الحصول على البيانات الاتحادية والنماذج المطلوبة لهذه الأبحاث وإعداد الموظفين للتكيف مع عصر الذكاء الاصطناعي، وتهدف المبادرة إلى ضمان تفوق الولايات المتحدة في أبحاث وتطوير الذكاء الاصطناعي والمجالات المرتبطة به مثل الصناعات المتقدمة والحوسبة الكمية.
وأشارت "رويترز" أيضا إلى ما ذكره ترامب في خطاب حالة الاتحاد خلال الأسبوع الماضي، من أنه مستعد للعمل مع الكونجرس لضخ استثمارات جديدة ومهمة في البنية التحتية، بما في ذلك الاستثمار في الصناعات المتقدمة في المستقبل، ووصف ذلك بأنه "ضرورة"، وقد دعم من هذا الاتجاه ما كشفت عنه وزارة الدفاع الأمريكية يوم الأربعاء الماضي من استراتيجية جديدة لتطوير تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي بالجيش، حيث ذكر تقرير للبنتاجون أن الولايات المتحدة يجب أن تسرع خطواتها في هذا المجال الذي تستثمر فيه دول مثل الصين وروسيا.
فكأن الولايات المتحدة انتقلت هنا من موقف الدفاع إلى موقف الهجوم، فلم يعد الأمر يقتصر على مطالبة الصين بعدم دعم شركاتها خاصة في مجال البحث العلمي والتكنولوجيا، بل انتقلت واشنطن إلى الإعلان عن دعم شركاتها في المجالات التكنولوجية المتقدمة، والواقع أن هذا يعد من قبيل الممارسة الأمريكية الشائعة وإن كان لا يتم الإشارة إليها كثيرا؛ حيث دأبت الولايات المتحدة على تحقيق قفزات تكنولوجية متتالية، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، من خلال تمويل مجالات البحث والتطوير بأموال فيدرالية في القطاع العسكري، ثم كان يتم التحول عادة في وقت لاحق لتوفير تطبيق مثل هذه التكنولوجيا العسكرية في القطاع المدني، كما أن الأموال الفيدرالية ساعدت كثيرا أيضا في تطوير وزيادة قدرات الشركات الخاصة الكبيرة والأكثر تقدما تكنولوجيا عبر المشتريات الحكومية من العديد من المنتجات وعلى رأسها بالطبع الأسلحة والمعدات العسكرية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة