في كل الأحوال فإن الإدارة الأمريكية لن تترك سوريا ولا الشرق الأوسط لمجرد رؤية الرئيس الأمريكي ترامب وأهدافه وتبريراته
أعلن المتحدث العسكري الأمريكي عن توقيع أمر انسحاب الجنود الأمريكيين من سوريا؛ حيث تم نشرهم للمساعدة في القتال ضد تنظيم داعش، بعد قرار الرئيس ترامب سحب الجنود الأمريكيين المتمركزين في سوريا، وإعادتهم إلى الولايات المتحدة، معتبراً أن التنظيم هزم إلى حد بعيد، ولقي قرار الانسحاب معارضة من الداخل الأمريكي وعدد من الدول الحليفة للولايات المتحدة، الذين رأوا فيه خطوة سابقة لأوانها تزيد من حالة عدم الاستقرار، كما أعلن أيضا عن سحب عدد كبير من الجنود الأمريكيين من أفغانستان.
في كل الأحوال فإن الإدارة الأمريكية لن تترك سوريا ولا الشرق الأوسط لمجرد رؤية الرئيس الأمريكي ترامب وأهدافه وتبريراته، في ظل استمرار حالة التجاذب السياسي والاستراتيجي داخل مراكز التأثير في الإدارة الأمريكية، والتي لن تتوقف عند البنتاجون فقط، بل امتدت إلى المخابرات المركزية والخارجية أيضاًأولاً: دفعت مجمل التطورات الأمريكية بوزير الدفاع الأمريكي جيم ماتيس والمبعوث الأمريكي للتحالف الدولي ضد تنظيم داعش بريت ماكغورك إلى الاستقالة، وتم تعيين باتريك شنهان، نائب وزير الدفاع المستقيل جيمس ماتيس، بمهام القائم بأعمال وزير الدفاع بدءا من الأول من يناير المقبل، ومن غير الواضح -رغم سيل التقارير والتحليلات- من كون هذا القرار مقدمة لإعادة انتشار للقوات الأمريكية، والتوجه لإشعال ساحات أخرى في إطار استراتيجية أو مرحلة جديدة، كما جاء على لسان المتحدثة باسم البيت الأبيض سارة ساندرز؛ حيث يشار هنا إلى تصريح مهم لرئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة جوزيف دانفورد، بأن واشنطن تمضي قدماً لتدريب آلاف المقاتلين المحليين لضمان هزيمة دائمة لداعش؛ التي قدرت أعداده ما بين 3000 إلى 8000 في سوريا؛ وأن قيادته تحتاج إلى تدريب 40 ألف عنصر محلي لمواجهة داعش وتوفير الأمن والاستقرار هناك، والواقع أن القوات المنسحبة من سوريا ستستقر في القاعدة الأمريكية في أربيل بشمال العراق، وستباشر بوضع نقاط حدودية بين سوريا وإقليم كردستان العراق، كما بدأت القوات الأمريكية في إنشاء مركز عمليات عسكرية مشترك مع قوات البيشمركة الكردية على الحدود العراقية السورية.
ثانياً: من الواضح أن الإدارة الأمريكية لا تزال تعاني حالة من عدم الاستقرار السياسي نتيجة توالي الاستقالات في الإدارة الأمريكية من مسؤولين كبار إلى وزراء، نتيجة عدم وجود آلية محددة لاختيار المسؤولين الذين عملوا بجوار الرئيس الأمريكي ترامب، ولأنه قادم من خارج المؤسسية الأمريكية فإن الاختيارات تتم بصورة غير واضحة.
وفي هذا السياق نتذكر أشهر الاستقالات التي سبقت جيم ماتيس وهي استقالة ريان زينك وزير الداخلية، والذي غادر منصبه بعد أن واجه انتقادات شديدة بسبب نفقاته العالية، واحتمال وجود تضارب مصالح جون كيلي، الأمين العام للبيت الأبيض، والذي أعلن ترامب أن كيلي سيغادر في نهاية في نهاية العام، وجيف سيشنز وزير العدل، والذي استقال بطلب من الرئيس ترامب في نوفمبر الماضي، ونيكي هايلي السفيرة لدى الأمم المتحدة، وسكوت برويت وزير البيئة الذي ارتبط اسمه بسلسلة فضائح حول استخدامه الأموال العامة، وريكس تيلرسون وزير الخارجية، الذي أقيل في مارس بعد خلافات مع ترامب، وستيف بانون الذي لعب دوراً حاسماً في الحملة الانتخابية الرئاسية، ومايكل فلين ماكماستر والذي لم يصمد سوى 22 يوما كمستشار للأمن القومي، وحل مكانه الجنرال ار ماكماستر، الذي غادر بدوره مهامه وحل مكانه جون بولتون.
ومن الاستقالات إلى تضارب السياسات يمكننا الكشف عن تباين المواقف والمهام من سوريا إلى أفغانستان، ومن روسيا للتحالف الأوروبي مرورا بالعديد من السياسات الأخرى التي يتبناها بصورة واضحة، وهي العمل من منطق حسابات المكسب والخسارة والنفقة والتكلفة والعائد، وهو أمر كلف الإدارة الأمريكية الكثير من الحسابات السياسية والاستراتيجية، إذ ما يصلح من سياسات مع الصين واليابان في إطار الحرب التجارية لا يصلح أبدا مع دول الاتحاد الأوروبي، وهي دول صديقة تعمل من منطق واحد ومسار مميز باعتبارها دولا تربطها بالولايات المتحدة أواصر عديدة لم يتفهمها الرئيس ترامب، والذي طلب بضرورة أن توفر دول الناتو كل السبل لدفع ثمن تحالفها في إطار مبدأ اقتصادي يصلح للتطبيق في مجال المال والأعمال وعقد الصفقات لكن لا يصلح بالفعل في السياسات الدولية، أو العمل من أعلى أو فرض استراتيجيات انفرادية على دول مثل فرنسا أو ألمانيا، بل إن بريطانيا نفسها، الحليف التقليدي، أعلنت عن سلسلة من التحفظات السياسية والاستراتيجية في تعاملاتها الراهنة، والتي سيكون له آثار أخرى في الفترة المقبلة بعد الخروج البريطاني الكامل من الاتحاد الأوروبي.
ثالثاً: تتوقف الإدارة الأمريكية في قرار انسحابها الراهن من سوريا عند منعطفات مهمة، منها ما البديل لسحب كافة عناصر القوات العسكرية التي يربو تعدادها عن 2000 كلهم من القوات الخاصة؟ ومن يملأ الفراغ؟ وهل بالفعل سيترك الأمر إلى تركيا لحسم ما يجري؟ وهل ستحدث توافقات حقيقية قبل إتمام الانسحاب؟ وما المقابل السياسي والاستراتيجي التي قد تحصل عليه الإدارة الأمريكية من الأطراف المعنية بالملف السوري مثل روسيا تحديدا؟ ولماذا رحبت روسيا بالانسحاب بصورة لافتة في إطار دعوتها المتحفظة على سحب كافة القوات الأجنبية من سوريا في الفترة المقبلة، وفي توقيت له دلالاته من حيث التعامل الراهن مع سوريا التي يجري تعويم نظامها بصورة لافتة بعد زيارة الرئيس عمر البشير إلى دمشق، واستئناف الاتصالات الأردنية السورية وفتح معبر نصيب، وزيارة رئيس مكتب الأمن الوطني السوري اللواء علي مملوك لمصر، والحديث المعلن والمباشر حول ضرورة استعادة سوريا مقعدها الدائم في الجامعة العربية قبل قمة مارس المقبلة؟ ومن ثم فإن التطورات الداخلية في سوريا والانفتاح العربي على سوريا سيدفع باقي الأطراف الأخرى الموجودة في سوريا لمراجعة مواقفها السياسية والاستراتيجية، خاصة أن الإدارة الأمريكية -رغم انسحابها- ستظل قائمة بوسائل وإجراءات أخرى وفي إطار ترتيبات أمنية وسياسية، وتوافقات غير معلنة مع روسيا، وفي إطار مقايضة سياسية حقيقية ستضم بعض الملفات الإقليمية والدولية الأخرى، والتي ستكون على رأسها كيفية التعامل مع الجانب الإيراني الذي ما زال متواجدا في سوريا وسيستمر بالفعل ومعه قوات حزب الله، التي لن تخرج، كما لن يعاد انتشار قوات حزب الله إلى مواقع بعيدة عن الحدود السورية الإسرائيلية، حيث ستظل القوات الإيرانية على مقربة من الجولان والقنيطرة، ولن تتزحزح من قريب أو بعيد إلا إذا قام الجانب الروسي بممارسة ضغوطات حقيقية على إيران، وفي إطار صفقة كاملة أيضاً.
رابعاً: سيكون إذن تعامل الإدارة الأمريكية من منطلق آخر يدفع وبقوة لإعادة ترتيب حساباتها مع الحفاظ على أمن إسرائيل بالأساس، وهو ما أكد عليه مرارا الرئيس الأمريكي ترامب، من أن القوات الأمريكية موجودة في الشرق الأوسط للحفاظ على أمن إسرائيل ووجودها، وفي إشارة مهمة إلى أن الولايات المتحدة لن تترك المنطقة ولن تغادرها أبدا، خاصة أن مرحلة ما بعد الانسحاب الأمريكي من سوريا ستفرض أربعة مسارات للتعامل الإسرائيلي تجاه سوريا.
الأول: استمرار قيام إسرائيل بتوجيه ضربات دورية على إيران وقوات حزب الله في مناطق مختلفة في سوريا، ووفقا لتكتيك سياسي وأمني واستراتيجي وحسب الأولويات الأمنية الإسرائيلية، وسيتم ذلك بالتنسيق مع روسيا مجددا، وعبر آلية التنسيق الاستراتيجي المشترك أو بقرارات منفردة دون التخوف من ردود فعل القوات السورية التي باتت تملك منظومة اس300 بما يؤهلها لإمكانيات متقدمة في الرد.
الثاني: الانتظار لحين اتضاح رؤية ما سيجري فعليا، ويمكن البناء عليه لاحقا من إعادة ترتيب الحسابات الملحة في سوريا عبر تفاهمات روسية إسرائيلية، وربما تشمل الجانب الأمريكي لتأمين المتطلبات الإسرائيلية في سوريا في الفترة المقبلة وقبل انتهاء الحرب رسميا.
الثالث: توقف إسرائيل عن توجيه ضربات جديدة على سوريا في ظل الأجواء الراهنة لحين القيام بعمل سياسي واستراتيجي محدد، بل يمكن لإسرائيل أن تدخل أيضاً في إطار تقارب غير معلن مع النظام السوري لإعادة الهدوء لجبهة الجولان مثلما كانت، مع تمشيط مناطق التماس وتأمين ظهير الجولان والقنيطرة بالأساس.
الرابع: العمل معا، أي إسرائيل والولايات المتحدة في سوريا بطريق غير مباشر مع الإقرار بضرورة تحديد الأولويات العاجلة لإسرائيل في سوريا والتي أصبحت على المحك، وهو ما تدركه روسيا بالأساس وتفهمت أبعاده جيدا، خاصة أن استمرار المواجهات الإسرائيلية الإيرانية سيستمر لحين إبعاد قوات حزب الله والحرس الثوري خارج مناطق الأمان الإسرائيلي، التي ستقر المتطلبات الأمنية والاستراتيجية الدائمة في الجنوب السوري، والمعلوم أن للولايات المتحدة حضورا عسكريا ذا أهمية استراتيجية في قاعدة التنف، عند المثلث الحدودي بين سوريا والعراق والأردن؛ سبقها إنشاء قاعدة في منطقة الزكف التي تبعد نحو 70 كلم شمال شرقي التنف، وكان الهدف من إنشاء هذه القاعدة هو إغلاق الطريق أمام القوات السورية وحزب الله للسيطرة على مدينة البوكمال، 200 كلم شمال شرق التنف.
خامساً: في كل الأحوال فإن الإدارة الأمريكية لن تترك سوريا ولا الشرق الأوسط لمجرد رؤية الرئيس الأمريكي ترامب وأهدافه وتبريراته، في ظل استمرار حالة التجاذب السياسي والاستراتيجي داخل مراكز التأثير في الإدارة الأمريكية، والتي لن تتوقف عند البنتاجون فقط، بل امتدت للمخابرات المركزية والخارجية أيضاً، وهو ما سيؤكد أن الرئيس الأمريكي ترامب لن يستمر في إدارة المشهد بصورة منفردة، خاصة أنه يتأهب لخوض المواجهة لولاية ثانية لن تكون سهلة، بل بالعكس ستكون صعبة في ظل الصراع الراهن بين الجمهوريين والديمقراطيين معا على إعادة تدوير بعض الأسماء، وتصعيد بعض الأسماء البارزة في الحزب الجمهوري تحديدا لمنازلة الرئيس، وهو ما يؤكد أنه سيواجه مأزقاً حقيقياً في الفترة المقبلة، وأنه في حاجة إلى فرق عمل تؤمن بفكره ورأيه، وهو ما يستهدفه للدخول في الولاية التالية دون إشكاليات حقيقية ومتلافيا بالفعل أزمة الاستقالات المتتالية والتي عمت أرجاء الإدارة الأمريكية منذ اليوم الأول لولايته الأولى، والتي لا شك أنه سيسعى لتلافيها بالفعل في الفترة المقبلة، وسيعمل على إحداث تناغم حقيقي داخل الإدارة الأمريكية بعد أشهر طويلة من المواجهات المعلنة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة