النظرة التجارية التي تتبناها الإدارة الأمريكية لا تأخذ مجمل العلاقات التجارية والاقتصادية مع الشركاء، بل تنتقي منها ما يوافق هواها.
تمضي الإدارة الأمريكية قدما في خططها بشأن تعديل ميزان التجارة مع دول العالم، مستهدفة في ذلك الشركاء التجاريين الذين يحققون فائضا تجاريا كبيرا مع الولايات المتحدة وعلى رأسهم الصين والاتحاد الأوروبي والمكسيك وكندا. ويبدو التصعيد الأمريكي واضحا بشن حرب تجارية انسجاما مع رؤية الرئيس الأمريكي بأن تحقيق النصر في حرب التجارة هو أمر ممكن وسهل، ولكن في الواقع، كما رأينا، فغالبا ما يستدعي كل تهديد أمريكي للآخرين بفرض المزيد من الرسوم الجمركية على سلعهم ردودا ثأرية ضد السلع الأمريكية، بما يهدد ليس فقط العلاقات التجارية بين هذه الأطراف فقط، بل النظام التجاري الدولي في مجمله.
النظرة التجارية الضيقة التي تتبناها الإدارة الأمريكية هي إذن نظرة قاصرة حيث لا تأخذ مجمل العلاقات التجارية والاقتصادية مع الشركاء في مجملها، بل تنتقي منها ما يوافق هواها وما تعلنه للجمهور الأمريكي من مكاسب تحت شعارات شعبوية مثل "أمريكا أولا"
ويبدو أنه حتى في حدود النظرة الأمريكية الضيقة للتبادل التجاري تسيطر على الإدارة زاوية رؤية أكثر ضيقا بحيث لا ترى مجمل العلاقات التجارية مع هذه الأطراف، كما تتجاهل التطور التاريخي الذي يبين طبيعة هذه العلاقات ويفسر نموها عبر الزمن.
إحصاءات مبتسرة
ربما الاعتراض الأول الذي يبديه الشركاء التجاريين هو اقتصار الإدارة الأمريكية على التجارة في السلع، دون أن تنظر إلى التجارة في الخدمات التي تحقق فيها الولايات المتحدة فائضا تجاريا مع هؤلاء الشركاء، وتتوزع هذه الخدمات على طائفة واسعة منها تبدأ بالمنتجات الثقافية كالأفلام والمسلسلات والكتب إلى برامج الحاسبات والمدفوعات مقابل حقوق الملكية الفكرية وغيرها.
فصادرات الولايات المتحدة السلعية على سبيل المثال للاتحاد الأوروبي بلغت في العام الماضي 283.3 مليار دولار بينما بلغت التجارة في السلع والخدمات مجتمعتين 528.2 مليار دولار. وهكذا بينما يبلغ عجز التجارة السلعية نحو 151.3 مليار دولار فإنه ينخفض إلى 101.2 مليار دولار في حالة شمول التجارة للسلع والخدمات.
ويتكرر الأمر نفسه في حالة الصين، حيث بلغت الصادرات الأمريكية السلعية خلال العام الماضي نحو 129.9 مليار دولار ترتفع إلى 188 مليار دولار مع إضافة الصادرات من الخدمات، وينخفض العجز إلى 335.7 مليار دولار بدلا من 375.6 مليار دولار في حال الأخذ في الاعتبار مجمل التجارة في السلع والخدمات.
وينخفض العجز الأمريكي في تجارة السلع والخدمات إلى نحو 2.8 مليار دولار فقط بدلا من 17 مليار دولار في تجارة السلع وحدها مع كندا، بينما ينخفض مع المكسيك إلى 68.7 مليار دولار بدلا من 71 مليار دولار.
الأمر الثاني المهم الذي يشير إليه شركاء الولايات المتحدة التجاريون هو أن قسما لا بأس به من صادراتهم يحتوي على مكونات أمريكية سواء سلعية أو خدمية، خاصة من قبل الشركات الكبرى الأمريكية العاملة في هذه البلدان، فالشركة التي تعمل في الصين أو المكسيك على سبيل المثال تستورد من الولايات المتحدة جزءا من مكونات السلعة التي تصنعها ثم تقوم بتصديرها للولايات المتحدة ذاتها لاحقا. من هنا فالتضييق على الواردات الأمريكية سيعني، حتى قبل تفكير الشركاء التجاريين في الانتقام، أن الصادرات الأمريكية سوف تتعرض بشكل أوتوماتيكي للانخفاض.
المكسيك المثال البارز
ربما يفيد توضيح التطور التاريخي الحديث للعلاقات الاقتصادية بين الولايات المتحدة والمكسيك بيان ما يتم تجاهله الآن من قبل الإدارة الأمريكية.
نشأت وتطورت بسرعة بالغة منذ بداية ستينيات القرن الماضي ما عرف باسم صناعات "المكيلادورا" (صناعات تجميع السلع الأمريكية عند الحدود)، وقد تم إقامة هذه الصناعات لتحل محل اتفاقية مؤقتة كانت تنظم انتقال العمالة المكسيكية بشكل موسمي للعمل في القطاع الزراعي الأمريكي، واعتبرت هذه الصناعات جزءا من حل لمشكلة إدارة الحدود بين البلدين، والتي يبلغ طولها نحو 3200 كيلو متر، وبحيث تحد من هجرة المكسيكيين غير الشرعية للولايات المتحدة. فصناعات "المكيلادورا" أقيمت على امتداد خط الحدود بين البلدين، وهي صناعات تجميع بسيطة للسلع حيث يتم نقل أجزاء السلع الأمريكية إلى داخل المكسيك لتتم عملية تجميعها فيما يطلق عليه الاقتصاديون صناعات "ربط المفك". وعملية التجميع لا تقتضي خبرة خاصة أو مهارة كبيرة، وهي توظف أعدادا كبيرة نسبيا من العاملين، وفي الوقت ذاته تحقق أرباحا ضخمة بالاستفادة من الرخص الشديد لتكلفة الأيدي العاملة في المكسيك.
وتعني المكيلادورا لغويا في الإسبانية تصنيع أو معالجة الشيء لقاء رسم معين، ومن الطريف أن أصلها يعود للكلمة العربية "مكيال"، حيث كان من المعتاد منح الطحان مكيالا من الحبوب مقابل ما يقوم بطحنه من حبوب، وقد تطورت هذه الصناعات على مر الزمن ووجدت دفعة بالطبع مع إقامة منطقة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (النافتا) ودخولها حيز التنفيذ في يناير عام 1994. فمنذ تأسيس النافتا عام 1994 وحتى وقتنا الحالي زادت الصادرات الأمريكية للمكسيك لما يقرب من خمسة أمثالها، بينما زادت الصادرات المكسيكية للولايات المتحدة لما يقرب من سبعة أمثالها، حيث تقوم المكسيك بشكل أساسي بتصدير ناتج صناعات المكيلادورا التي تشكل أكثر من نصف إجمالي الصادرات المكسيكية، وتشمل صادرات الآلات الكهربائية وسيارات الركوب والشاحنات وأجزاء السيارات ثم الآلات، إضافة إلى الصادرات التقليدية المكسيكية من بعض المنتجات الزراعية والأحجار الكريمة، وخاصة الذهب والفضة، أما الواردات المكسيكية من الولايات المتحدة فتشمل بشكل رئيسي أجزاء السلع التي يتم تجميعها في المكيلا دورا، إضافة إلى بعض السلع الغذائية خاصة الحبوب وبعض المنتجات النفطية المكررة.
وصارت المكسيك ثاني أهم بلد في العالم (بعد كندا) بالنسبة للصادرات السلعية الأمريكية، إذ تلقت نحو 15.7% من إجمالي الصادرات السلعية الأمريكية بقيمة بلغت نحو 243.3 مليار دولار عام 2017 وبما يزيد بنسبة 460% عن حجم هذه الصادرات في عام 1993 (العام السابق على بدأ عمل النافتا)، وفي المقابل بلغت واردات الولايات المتحدة من المكسيك 314.3 مليار دولار في العام الماضي وهو ما يزيد بنسبة 668% مقارنة بعام 1993.
والأهم في هذا الصدد هو أن الاعتماد المكسيكي على الولايات المتحدة يعد أكبر بكثير من الاعتماد الأمريكي على المكسيك، إذ إن نحو 80% من الصادرات المكسيكية تذهب للولايات المتحدة، كما أن نحو 50% من الواردات المكسيكية مصدرها الولايات المتحدة، وهو ما يعد بالطبع ناجما بشكل رئيسي عن صناعات التجميع، حيث تقدم الولايات المتحدة ما يصل إلى 90% من كافة مدخلات التصنيع والتجميع في المكيلادورا، ليعود نحو 90% من صادرات السلع المنتجة في هذه المنطقة للولايات المتحدة ذاتها، علاوة على أن المكسيك تستورد نحو 80% من احتياجاتها من الواردات الزراعية (نحو 9% من جملة الواردات المكسيكية) من الولايات المتحدة، ونتيجة لهذا الاعتماد البالغ للاقتصاد المكسيكي على الاقتصاد الأمريكي، فإنه غالبا ما تتبع دورة الاقتصاد المكسيكي دورة الاقتصاد في الولايات المتحدة وحتى بشكل مضاعف وأشد في حالات الركود، فمع تفجر الأزمة المالية والاقتصادية العالمية في الولايات المتحدة في عام 2008، على سبيل المثال، انخفض معدل النمو الحقيقي في الناتج المكسيكي في عام 2009 ليبلغ سالب 6.5%، بينما كان لا يتعدى سالب 2.6% في الولايات المتحدة ذاتها.
إضافة لذلك بالطبع ونتيجة لصناعات المكيلادورا وبعض القطاعات المالية المرتبطة بالصناعة كالتأمين والمصارف، نجد أن الولايات المتحدة هي المستثمر الخارجي الأكبر في المكسيك، وهكذا فالعلاقات غير متوازنة وتعتمد المكسيك على الولايات المتحدة أكثر بكثير من اعتماد الأخيرة عليها.
النظرة التجارية الضيقة التي تتبناها الإدارة الأمريكية هي إذن نظرة قاصرة حيث لا تأخذ مجمل العلاقات التجارية والاقتصادية مع الشركاء في مجملها، بل تنتقي منها ما يوافق هواها وما تعلنه للجمهور الأمريكي من مكاسب تحت شعارات شعبوية مثل "أمريكا أولا"، وهذه النظرة التي ترى أنه يمكن تحقيق نصر سهل في حرب التجارة خاطئة كليا، ليس فقط في حدود أن حروب التجارة ينجم عنها خسارة كافة الشركاء، ولكن لأنها تضم القوى التجارية الكبرى في عالمنا، فهي تمثل تهديدا للنظام التجاري الدولي قاطبة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة