من يتمعّن في أولويات التصريح الأخير للرئيس دونالد ترامب، يكتشف أن هناك للمرة الأولى إدارة أمريكية تعرف شيئا عن الشرق الأوسط والخليج.
من يتمعن في أولويات التصريح الأخير للرئيس دونالد ترامب، يكتشف أن هناك، للمرة الأولى منذ فترة طويلة، منذ إدارة جورج بوش الأب (بين 1989 و1993)، إدارة أمريكية أخرى تعرف شيئا عن الشرق الأوسط والخليج والتحديات التي تواجه المنطقة. كان التصريح الطويل للرئيس دونالد ترامب الذي وزعه البيت الأبيض بشكل بيان، يوم الثلاثاء الماضي، دليلا آخر على أن الإدارة ليست مستعدة، أقلّه نظريا، للغرق في التفاصيل، على الرغم من أن لهذه التفاصيل أهميتها في أحيان كثيرة.
قطع دونالد ترامب الطريق على إيران وعلى أولئك الذين يريدون استخدام قضية جمال خاشقجي. وأعاد القضية إلى إطارها الصحيح من جهة، وأكد أن الأولويات الأمريكية لم تتغيّر من جهة أخرى. المشكلة الآن هي مشكلة أولئك الذين صرفوا مئات ملايين الدولارات ضد السعودية في عملية استغلال لجريمة بشعة.
لدى قراءة البيان، يجد المرء أن ترامب يرفض الابتعاد عن لُبّ المشكلة في المنطقة، ودخل مباشرة في صلب الموضوع، مؤكدا أن إيران "تشنّ حربا بالواسطة" على السعودية انطلاقا من اليمن، لم يتجاهل استعداد المملكة لإيجاد حلّ سياسي وتقديم كل المساعدات لليمن واليمنيين.
لم يقتصر بيان ترامب، الذي بدأ بعبارة "العالم صار مكانا خطيرا"، على اليمن. بل انتقل إلى سلوك إيران في العراق ولبنان، حيث توفر إيران دعما لـ"حزب الله"، وفي سوريا، حيث قتل بشار الأسد وهجَّر “ملايين السوريين”، وذهب إلى أبعد من ذلك، فذهب إلى عداء إيران للولايات المتحدة نفسها وقتلها لمواطنين أمريكيين ورفعها "شعار الموت لأمريكا"، وأنهى ترامب المقدمة الموضوعة لبيانه بقوله "تعتبر إيران في طليعة رعاة الإرهاب" في العالم.
كان البيان الصادر عن البيت الأبيض عبارة عن مقارنة بين سلوك إيران وسلوك المملكة العربية السعودية، فأجرى الرئيس الأمريكي تشريحا للسياسة السعودية، فوجد أن المملكة "حليف" للولايات المتحدة، إذ تشاركها في الحملة على الإرهاب وفي التصدي لكلِّ أنواع التطرف، وتطرق إلى الاستعداد السعودي لتوظيف نحو 450 مليار دولار في الولايات المتحدة، محذرا من أنه إذا لم تشتر السعودية سلاحا أمريكيا، ستذهب الصفقات إلى الصين وروسيا.
كان ترامب في غاية الصراحة في بيانه، خصوصا عندما تحدث عن دور السعودية في تفادي ارتفاع سعر برميل النفط، وكان صريحا أيضا لدى تطرقه إلى قضية المواطن السعودي جمال خاشقجي الذي قُتل داخل قنصلية المملكة في إسطنبول، وكان واضحا في تأكيده رفض مثل هذا النوع من الممارسات، مشيرا إلى أن الولايات المتحدة فرضت عقوبات على سبعة عشر سعوديا تورطوا في جريمة التخلص من جمال خاشقجي التي وصفها بأنها "رهيبة".
يشكل بيان ترامب منعطفا في حد ذاته. رفض بوضوح الذهاب إلى حيث يريد أن يذهب آخرون لا هدف لهم سوى إيجاد تغطية لما ترتكبه إيران في المنطقة. نعم، إن جريمة التخلص من جمال خاشقجي لا يمكن تبريرها بأي شكل من الأشكال، هذا أمر أكيد، لكنّ الأكيد أيضا أنه ليس طبيعيا استغلال هذه الجريمة لاستهداف ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مباشرة؛ لذلك لم يجد دونالد ترامب عيبا في الاعتراف بأن وليّ العهد السعودي قد يكون على علم مسبق بالجريمة التي وصفها بـ"الحدث المأساوي"، كما قد لا يكون الأمر كذلك.
في النهاية، وضع ترامب العلاقة مع السعودية في إطار أوسع، وقال بكل بساطة ووضوح "في كلّ حال إن علاقتنا هي مع المملكة العربية السعودية"، ما لم يقله بكل هذا الوضوح إن العلاقة الأمريكية- السعودية ليست رهينة أشخاص، بل هي علاقة بين بلدين تربط بينهما مصالح كبيرة؛ وما يدل على ذلك إشارته إلى أن السعودية "حليف كبير في معركتنا المهمة مع إيران".
مرة أخرى، لا يمكن تبرير التخلص من جمال خاشقجي بأي شكل من الأشكال، ما حصل كان "أسوأ من جريمة… كان خطأ" على حد تعبير جوزيف فوشيه وزير الشرطة لدى نابليون بونابارت، وكان فوشيه يعلق على إعدام معارض لنابليون، في مرحلة لم يكن الأخير نصَّب نفسه إمبراطورا بعد، وذلك قبل استجواب هذا المعارض بغية معرفة الذين كانوا يتآمرون على نابليون وماذا كان يدور بينهم.
لم يحل التخلص من جمال خاشقجي أي مشكلة، وكشف أن هناك هواة ارتكبوا جريمة في المكان الخطأ بحق الشخص الخطأ؛ بُغية الإساءة إلى المملكة العربية السعودية وإدخالها في لعبة يسهل من خلالها ابتزازها، ودخلت تركيا في هذه اللعبة التي لا يوجد مستفيد منها غير إيران.
قطع دونالد ترامب الطريق على إيران وعلى أولئك الذين يريدون استخدام قضية جمال خاشقجي. أعاد القضية إلى إطارها الصحيح من جهة، وأكد أن الأولويات الأمريكية لم تتغير من جهة أخرى، المشكلة الآن هي مشكلة أولئك الذين صرفوا مئات ملايين الدولارات ضد السعودية في عملية استغلال لجريمة بشعة كان يجب تفاديها منذ البداية.
هل تلتقط إيران رسالة ترامب وتقتنع أن لدى الإدارة الأمريكية استراتيجية واضحة تنمّ عن فهم عميق للمنطقة وخطورة المشروع التوسُّعي الإيراني؟ إذا التقطت الرسالة، سيتوجب عليها تغيير سلوكها والالتفات إلى هموم شعبها، من المستبعد أن يكون النظام الإيراني، الذي يرفض استيعاب أن ليس لديه نموذجا يقدمه للآخرين، قد فهم الرسالة. المهم أن يفهم الرسالة الأمريكية آخرون من الذين اعتقدوا أن الطريق صار ممهدا لمزيد من الحملات على المملكة العربية السعودية في ضوء ذلك “الخطأ الأسوأ من جريمة”.
في العام 1991، استغلت إيران هزيمة الجيش العراقي في الكويت على يد قوات التحالف الدولي الذي أعاد البلد إلى أصحابه، كي تشجع على قيام حملة على النظام العراقي بُغية إسقاطه، أرسلت إلى العراق مليشيات مذهبية وعناصر من "الحرس الثوري"، لكن امتلكت إدارة جورج بوش الأب ما يكفي من الحكمة لمنع سقوط النظام العراقي، رغم كل ما ارتكبه، بواسطة أدوات إيرانية، كانت هذه الإدارة برجالاتها الأساسيين، أي أن جورج بوش الأب، ووزير الخارجية جيمس بايكر، ومستشار الأمن القومي برنت سكوكروفت، يعرفون ما الذي سيعنيه سقوط العراق في يد إيران وانعكاسات ذلك على التوازن الإقليمي.
على الرغم من أنه لا يمكن مقارنة جورج بوش الأب بدونالد ترامب، خصوصا في ضوء خبرة الأول في السياسات العالمية، إلا أنه لا يمكن تجاهل أن الإدارة الأمريكية الحالية تدرك تماما أن لا شيء يجب أن يصرفها عن الأولويات، أو أن يجبرها على إعادة ترتيب الأولويات. لا تزال الأولوية في واشنطن لإعادة إيران إلى جادة الصواب، أكان ذلك في اليمن أو العراق أو سوريا أو لبنان، وستكون الأسابيع القليلة المقبلة مرحلة اختبار لإدارة ترامب، ولمدى جديتها في ترجمة كلامها عن إيران إلى أفعال.
كان البيان الأخير الصادر عن البيت الأبيض باسم ترامب، بمثابة تأكيد لرغبة في الذهاب بعيدا في وضع حد للمشروع التوسعي الإيراني، وذلك بغض النظر عن تحفظات الأوروبيين، وما هو لا بد من ملاحظته أن الأوروبيين بدأوا يشعرون أن الإدارة الأمريكية ليست من النوع الذي يحب المزاح، خصوصا عندما يتعلق الأمر بإيران.
نقلا عن "العرب اللندنية"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة