برغم سيل التقديرات التي وجهت للإدارة الأمريكية من بيوت خبرة ومراكز بحثية كبيرة في الولايات المتحدة.
بضرورة وضع الصراع العربي الإسرائيلي في مرتبة متقدمة في أولوياتها، والتوصية بالانخراط المباشر في تفاصيله في ظل حالة الاحتقان الكبيرة التي تشهدها العلاقات الفلسطينية، خاصة في قطاع غزة وإسرائيل، فإن الإدارة لم تضع هذا الصراع في مرتبة أولى برغم إقرار الإدارة، قبل أن تدخل البيت الأبيض بخيار حل الدولتين، وانتهاء العمل بمقاربة خطة السلام والاستقرار التي أطلقها الرئيس الأمريكي السابق ترامب.
وبرغم ذلك وضعت الإدارة الأمريكية هذا الصراع الأقدم والأكثر تعقيداً في الإقليم، بل وفي العالم، في مرتبة لاحقة، ولم تكلف نفسها تعيين مبعوث للسلام في الشرق الأوسط، وقامت بتعيين مبعوث للشأنين اليمني والإيراني، وللقرن الأفريقي، وحاولت النأي عن تفاصيل ما يجري إلى أن اندلعت المواجهات الأخيرة بين قطاع غزة وإسرائيل، لتكتشف أن الإقليم بأكمله، قد يتهدد نتيجة هذا الصراع المعقد.
وفي حال دخول كل الوكلاء من تنظيمات فلسطينية مثل حركتي "حماس" و"الجهاد الفلسطيني"، وحزب الله، وكل هذه التنظيمات لها مرجعيتها الإقليمية ممثلة في الجانب الإيراني، ونظرياً يمكن أن تهدد أمن إسرائيل، وتدخل في أتون ما يجري سواء من جنوب لبنان أو في سوريا، وفي مناطق أخرى، الأمر الذي سيدفع لا محالة الولايات المتحدة لضرورة الانخراط، والتعامل وعدم العزوف عن الاشتباك مع الطرفين دبلوماسياً أو سياسياً، ولو بصورة مبدئية، وإلا فإن الوضع الراهن قد يدفع دولاً أخرى تتحين الفرصة للتدخل مثلما فعلت روسيا في الأيام الأولى للمواجهة الأخيرة بين إسرائيل وقطاع غزة، كما دخلت دول الاتحاد الأوروبي، وبدأ الحديث الجدي الذي جربته الولايات المتحدة منذ سنوات بالعودة إلى الرباعية الدولية كحل مباشر للتعامل الدولي المطلوب لمواجهة ما يجري فلسطينياً وإسرائيلياً، إذ إن استمرار الصراع، وانفتاحه قد يضر بالمصالح الكبرى ليس للولايات المتحدة ولكل القوى في الإقليم، وهو ما ينطبق على روسيا والصين والقوى الآسيوية التي تملك استثمارات كبيرة في المنطقة، بل وفي داخل إسرائيل، على سبيل المثال الصين تحديداً، وهو ما يتطلب وقف ما يجري، وعدم الاستهانة بتطوراته، خاصة أن أمن إسرائيل بات مهدداً ومعرضاً للخطر في حال استمرار الاشتباكات الدورية مع القطاع، وفي ظل تغير قواعد اللعبة العسكرية الراهنة، وتعرض سماوات إسرائيل، ومنشآتها المدنية والعسكرية لاستهداف صاروخي وصل إلى القدس، كما وصل إلى ديمونة، وهو ما يعني أن الخطر بات محدقاً على إسرائيل.
قد تقدم الإدارة الأمريكية على تعيين مبعوث عاجل لإدارة الصراع والتعامل مع مستجدات ما بعد المواجهة الأخيرة التي لا تزال قائمة، ولكن سيحتاج هذا المبعوث إلى صلاحيات ومهام كاملة ومجموعة من الأفكار والمرتكزات التي يمكن أن يتحرك من خلالها، وليس فقط التجول في العواصم العربية وتل أبيب، خاصة أن الإدارة - ووفقاً لمراجعتنا لمواقفها وتوجهاتها – لا تملك رؤية كاملة للحل، أو التعامل واكتفت الإدارة الأمريكية الراهنة، بالتأكيد على عموميات، وأطر نظرية مثل إعادة تدوير خيار حل الدولتين لكن لم تبلور منهاجاً أو مساراً للتفاوض، كما تعاملت مع فكرة عقد مؤتمر للسلام في الشرق الأوسط بصورة عابرة ولم ترفض ولم تقبل، على اعتبار أن هذا الأمر ليس ضمن أولوياتها في الشرق الأوسط، كما لم تبدِ أي مواقف على الدعوة الأممية لإحياء دور اللجنة الرباعية الدولية، كمنهاج تفاوضي له مرجعيته التفاوضية منذ بدء المفاوضات العربية الإسرائيلية في مطلع التسعينيات.
ستنتظر كل الأطراف المعنية بالصراع العربي الإسرائيلي دوراً حقيقياً للإدارة الأمريكية الراهنة للتدخل، وطرح رؤية للتعامل بدلاً من إجراء اتصالات، أو مباحثات نظرية قد توجِد حضوراً للجانب الأمريكي، لكنه لن يكون مؤثرا أو فاعلا، وهو ما سيدفع القوى الأخرى، خاصة روسيا، للتدخل كما أن الصين تتحين الفرصة لإيجاد دور حقيقي وفاعل في الساحة الفلسطينية الإسرائيلية، خاصة أن حالة السيولة العامة في الشرق الأوسط ستسمح بذلك، وفي ظل ترقب إقليمي للتعامل والتدخل.
ولعل سرعة الحركة المصرية والأممية ما يؤكد على ذلك بصرف النظر عن ردود الفعل من قبل كل طرف، وفي ظل انتظار ومراهنة على دور إيراني يعمل وراء ستار، وبصورة غير مباشرة مع التنظيمات الفلسطينية في قطاع غزة، كما تعمل تركيا في القدس، ويسعى رئيس الوزراء التركي لإيجاد دور فاعل في التطورات الفلسطينية الإسرائيلية الراهنة والمحتملة بدعوته لتدويل القدس، أي أن هناك أطرافاً إقليمية ودولية تسعى لملء الفراغ الراهن، وما لم تتحرك الإدارة الأمريكية فإن هذه الأطراف ستوجد لها دوراً فاعلاً.
المتوقع إذن أن تستمر الإدارة الأمريكية في متابعة ومراقبة السلوك الفلسطيني، خاصة أن الإدارة الأمريكية ستحاول تطبيق المعايير الأمريكية المعلنة، والخاصة بالتعددية والليبرالية، والقيم الديمقراطية والحفاظ على أمن إسرائيل أولاً وأخيراً، وفي حال تيقنها من سلامة ما سيجري فلسطينياً – وهو أمر صعب وغير متوقع - ستبدأ في التعامل الجاد مع السلطة الفلسطينية انطلاقاً من أنها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، وفي حال عدم حدوث ذلك فإن الإدارة قد تجمّد كل مواقفها الإيجابية الراهنة، وإن كانت ستبقي على قنوات التواصل الأمنية والاستراتيجية بناء على مطلب إسرائيلي، وهو ما سيستمر في كل الأحوال، خاصة في مرحلة ما بعد فرض التهدئة الجديدة التي سيدخلها الجانبان بصرف النظر عما يجري ويحمل أهدافاً ومصالح من كل طرف يسعى لتحقيقها.
يمكن التأكيد إذن على أن الإدارة الأمريكية - وبرغم كل ما يجري - لن تتعجل خطواتها بشأن التعامل مع إشكالية استئناف التفاوض بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وأنها ستعمل وفق سيناريو محدد يركز على المتابعة والترقب وفعلياً لن يكون مطروحاً في المدى المنظور، وفي ظل ما سيجري في الساحتين الفلسطينية والإسرائيلية من تطورات تهدئة، أو استمرار الصراع دورياً، وبالتالي فإن أي تحركات على أي مستوى ستكون بالأساس في سياقها الراهن، ودون اتخاذ إجراءات هيكلية أو مفصلية من قبل الإدارة الأمريكية، بل الترقب لما هو آتٍ ومنتظر، ومن ثم فإن الإدارة الأمريكية ستكون لها تقديراتها وحساباتها الخاصة حتى مع التواصل مع كل الأطراف المعنية، ولن تنخرط سريعاً في استئناف أي اتصالات حقيقية بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وربما إلى منتصف الولاية الحالية للرئيس جو بايدن بناء على تقييمات محددة مرتبطة بكبار مسؤولي الخارجية، وعدد من مستشاري الإدارة الأمريكية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة