الخوف من الأيام القادمة بات أمراً مشروعاً في ظل انسداد الأفق الحكومي.
وعلى الأرجح ارتطام السفينة اللبنانية المترنحة بات مسألة وقت، وما علينا إلا انتظار المشاهد السوداوية من أنواع انهيارات مختلفة؛ تبدأ اقتصادياً واجتماعياً والأكثر دراماتيكياً أن تتحول إلى انفلات أمني لا تحمد عقباه، فالواقع على الأرض يوضح أنه لا يوجد أي معطى يشير إلى إمكان ولادة الحكومة، وهو ما سبق أن أشار إليه رئيس الجمهورية ميشال عون، أي إلى قاع الجحيم، ولا يمكن الرهان قطعاً على أي حلول مفاجئة أو ناجحة ولو حتى بدائية، وهو ما يرشح بالذهاب إلى المجاعة حتماً، لا سيما أن السعودية الدولة الأكبر والأكثر استيراداً قررت وقف دخول الصادرات الزراعية اللبنانية إلى أراضيها أو عبرها، بسبب الرمان المفخخ بحبوب الكبتاجون المخدرة، ثم بعدما منعت استيراد أصناف عدة من المواد الغذائية اللبنانية.
لبنان لن يكون بخيرٍ طالما يجابه عدواً خارجياً يحاول تركيعه لأخذه في محوره، فضلا عن عدو داخلي متآمر على عروبته وفريق منقسم على ذاته، ويعيش تناقضات دخلت ووصلت إلى العظم وكيف يمكن أن يكون لبنان بخيرٍ وهو يرزح تحت أزمات مالية هي الأخطر في تاريخه.
ولا مستقبل للحل يلوح في الأفق وكل المؤشرات العديدة توحي بأن المسار والمشهد الداخلي يسير من الهشاشة نحو الاحتراب، فلبنان واللبنانيون يعيشون في بَرزخٍ بين انهيار نظامٍ وامتناع تشكّل البديل، وهنا تزدهر أعمال الجماعات التي تكره الحياة وتمجّد القتل وتمارس كل أشكال الجريمة لتستغل ثورة الجياع وتعبر من خلالها لفتح باب من أبواب الاقتتال الداخلي القاتل والمدمر.
حاليا الاتحاد الأوروبي يُعد عقوبات على السياسيين الذين يُنظر إليهم على أنهم يعرقلون تشكيل الحكومة بسبب الإحباط من سوء إدارة النخبة الحاكمة، فمن الواضح أنّ وزير الخارجية الفرنسي لو دريان واجه طريقاً مسدوداً في لبنان، يعبّر عن هذا الفشل تحذيره من "انتحار جماعي" للسياسيين في لبنان أو للبنان نفسه، فكل الزعماء في لبنان يتصارعون فيما بينهم غير مهتمين بمن أفقروهم من الناس وسرقوهم، فقد كان الأجدر بهم لو تمتعوا بقليل من الحسّ السياسي والشعور بالمسؤولية الوطنية والحرج أمام الغالبية الساحقة من اللبنانيين المنسحقين بمآلات الانهيار، المُنْسدّة في وجوههم كل الآفاق الذين ينتظرون أيَّ بارقةٍ تبعث فيهم بعض الأمل بالتغيير، باعتبارهم القوى السياسية التي تؤكد مقدرتها على تحمل مسؤولية التغيير المنشود بما يتوافق مع مصالح البلد ومواقف القوى الخارجية ومنها فرنسا، والحقيقة أنّ زيارة لو دريان والتلويح بالعقوبات كشفت فشل المبادرة الفرنسية لتشكيل "حكومة"، لأنّه كان مطلوباً في المبادرة تشكيل الحكومة خلال 15 يوماً، وكشفت العجز الفرنسي عن فعل أيّ شيء في لبنان، فلا المبادرة بشكلها الإيجابي قد أقنعت المسؤولين عن تعطيل الحكومة بتسهيل عملية التشكيل، ولا العقوبات الفرنسية، إنْ أخذت طريقها إلى التطبيق ستُجبر أولئك المسؤولين على تنفيذ المبادرة وتسهيل التشكيل، عملياً لا شيء سيتغيّر في المشهد سوى الذهاب إلى مزيد من التعقيد، ومن تفاقم الأزمة مالياً واقتصادياً وسياسياً إلى أزمة أمنية ربما تكون خارج السيطرة.
نعم، لقد تعثرت المبادرة الفرنسية في لبنان منذ لحظة إعلانها، وشهدت موتها الفعلي مع الزيارة التحذيرية الأخيرة للرئيس ماكرون إلى بيروت رغم حرص فرنسا على إشراك كل قوى السلطة في دعم "حكومة اختصاصيين"، بما في ذلك "حزب الله"، ورغم أنهم تلقوا تحت وطأة هول جريمة تفجير مرفأ بيروت وعوداً قاطعة بالسير في مشروع الحكومة المقترحة، فإن الوعود سرعان ما تراجعت وتقزّمت، ولم يبقَ من المبادرة سوى اسمها.
مشكلة العهد في لبنان وهو "عهد حزب الله" الذي على رأسه ميشال عون وصهره جبران باسيل يقود لبنان تدريجيًا نحو شبح العتمة والظلام بكل صوره، وأنّه عهد لا يجيد سوى الكلام، الكلام للعهد والأفعال لحزب الله، كلام كثير لا علاقة له بالواقع وما يدور على أرض لبنان وما يجري في المنطقة والعالم، فمن هو حريص فعلاً على العلاقة مع السعوديّة ودول الخليج العربي لا يغطي نشاط الحوثيين في لبنان، وهو مؤشر صريح على اختلال الرؤية للقيادة السياسية وعدم وضع الأمور في مكانها الصحيح.
غير أن ما يجري مع لبنان اليوم لا يشير إلى أن أحداً قد تعلم من الدرس شيئاً، وكأنهم مشتاقون للحرب، واللبنانيون اليوم محاصرون بسبب فشل الطبقة السياسية الممسكة بزمام القرار وفسادها والانهيار المالي الذي يعصى على الحلول التي يضعها صندوق النقد الدولي، وبسبب حزب الله الممثل المعتمد للنظام الإيراني بدولته التي تقف بين دولة لبنان والمجتمع الدولي، لكن ما يجري في المنطقة من متغيرات وتحولات ومقاربات وتراجعات وتنظيم للخلافات وتطوّرات متسارعة على وقع محادثات فيينا النووية تعد فرصة ثمينة قد لا تتكرر للبنانيين إن أردوا لوطنهم البقاء بطي خلافاتهم السياسية التي فرضت نفسها في لبنان، والتي لن تقود على الأرجح إلى إطفاء نزاعات مزمنة أو مستجدة منذ عقد من الزمن، ولكن محاولة التهدئة في حد ذاتها تمثل سبيلًا جيداً قد يكون مقبولًا على الأقل في الفترة الحالية على أمل أن تتغير الظروف إلى الأفضل وقد يكون حين ذلك إعادة الاعتبار لمفهوم إنقاذ لبنان لم يعد بيد الطبقة السياسية الحاكمة إذا لم تصلح حالها، بل أضحى بيد المجتمع المدني عموماً ومن يطلقون على أنفسهم لقب "ثوار" خصوصاً.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة