ما لم تدرك إسرائيل حاجتها إلى السلام الآن فلن تدركها أبدا.
كل الأوضاع التي تحيط بالأزمة الراهنة تؤكد ذلك، والإسرائيليون ليسوا عاجزين عن التوصل إلى قناعة مفادها أن سياسات الاستيطان بلغت حدا فاض به الكأس، وأن الوقت قد حان لخطوة شجاعة إلى الوراء، تضمن التوصل إلى حل يفضي إلى بناء دولتين مستقرتين تتعايشان بأمن وسلام.
انفجار المواجهات في أراضي عام 48 هي التي أوحت للمسؤولين الاسرائيليين بأنهم يواجهون، للمرة الأولى، مخاطر اندلاع "حرب أهلية".
في نهاية عام 1948 كان عدد الفلسطينيين الذين يقيمون داخل دولة إسرائيل 154 ألف نسمة، ولكنهم اليوم أكثر من مليون و600 ألف نسمة، أو نحو ربع مجموع السكان، ويبلغ متوسط الأعمار بينهم نحو 22 عاما، أي أنهم جيل مؤهل للتمرد على المظالم؛ حيث إنهم يعانون من مظالمهم الخاصة، فإن ارتباطهم بالقضية الوطنية الفلسطينية واضح تماما الآن، وعندما بلغت اعتداءات الاستيطان أسر "حي الشيخ جراح" "والشيخ جراح هو طبيب صلاح الدين الأيوبي"، فقد كان من الطبيعي للكيل أن فاض.
استقرار إسرائيل نفسها أصبح موضع شكوك جديرة بالاعتبار، صحيح أن آلة القمع نجحت في كبح دوافع التمرد لدى الجيل السابق من مواطني إسرائيل الفلسطينيين، إلا أن الجيل الجديد، بمستواه التعليمي الأفضل، وبقدرته على التمعن في وقائع التمييز وطابعها العنصري، بحسب ما تؤكده المنظمات الحقوقية الإسرائيلية نفسها، فإنه لم يعد قادرا بالضرورة على تقديم التنازلات، فقط من أجل المحافظة على البقاء. الـ154 ألف مواطن كانوا جديرين باعتبار "المحافظة على البقاء" إنجازا ومعجزة، إلا أن حسابات المليون و600 ألف مختلفة الآن، إنهم جزء من النسيج الاجتماعي-الجغرافي القائم، اقتلاعهم بات مستحيلا، والتخلي عن معايير الحقوق الإنسانية، إذا كان ممكنا من قبل، فإنه لم يعد مقبولا لديهم الآن.
المسؤولون الإسرائيليون يفهمون تماما ما معنى أن تغرق إسرائيل في مواجهة مزدوجة، مع فلسطينيي 1967، ومع ذلك الجزء من نسيجها الخاص في آن واحد.
هذه مشكلة لا يمكن حلها من دون سلام شامل، لا يمكن حلها من دون دولة فلسطينية مستقلة في الجوار، كما لا يمكن حلها من دون التخلي عن احتلال القدس الشرقية لصالح الدولة الفلسطينية، وبكل تأكيد لا يمكن حلها مع استمرار سياسات الاستيطان.
لقد أظهرت هذه السياسات أنها باتت وصفة للانفجار، ليس لمن يقع الاحتلال المباشر على رؤوسهم، ولكن لمن يقع التمييز العنصري داخل إسرائيل على رؤوسهم أيضا.
لقد راهنت إسرائيل في التمادي بسياسات الاستيطان، على فشل السلطة الفلسطينية في أن تكون سلطة حل، ولكن هذا الفشل لم يعد كافيا الآن، والأمر لا يتعلق بما أفلت من الزمام من بين يدي هذه السلطة فحسب، بل لأن تطورات الأزمة أظهرت الحاجة إلى طرف فلسطيني قادر على التفاعل الجاد من أجل إحياء مبادرات السلام، وعلى أن يمسك زمام التمثيل الوطني على وجه أفضل مما هو قائم الآن.
السلام في حاجة إلى شجعان، وليس إلى ضعفاء يستسلمون للواقع أو يستمرئون العيش فيه، أو ينتظرون الحل ليسقط في أحضانهم مثل تفاحة نيوتن.
لقد دمر الرئيس محمود عباس الفرصة لإيجاد مؤسسة سلطة وطنية تحظى بالشرعية، عندما قرر "تأجيل" "أو في الواقع "إلغاء"" الانتخابات الفلسطينية، فقط لأنه رأى هزيمته الشخصية ماثلة أمام عينيه، اتخذ من مشاركة القدس في الانتخابات ذريعة، وها هي القدس ردت عليه، بعدم الالتفات إلى سلطته، فما كان يخشاه في صناديق الاقتراع عاد ليراه بهزيمة أشد على أرض الواقع.
لقد كان من المضحك المبكي أن يشكو أمين سر اللجنة المركزية لحركة "فتح"، جبريل الرجوب، في مقابلة مع "تلفزيون فلسطين" من أن "أيا من الزعماء العرب لم يتصل بالرئيس محمود عباس، خلال العدوان الإسرائيلي الحالي".
لم يفهم أن الرئيس عباس هو الذي اختار لنفسه هذه النهاية، ولم يجبره عليها أحد، لم يفهم أيضا أن فلسطينيي القدس فعلوا الشيء نفسه.
سلطة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، بدورها، لم تر أن القمع والتنكيل والتمييز وسياسات الاستيطان لم يعد بوسعها أن تكفل الاستقرار.
ولكن هذا كله لا يغني إسرائيل عن الحاجة إلى إعادة قراءة الواقع، الحديث عن "حرب أهلية" هو بحد ذاته دلالة فشل مزدوج، تقول بأعلى صوت ممكن: إن الوقت قد حان للاستدراك.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة