الحديث عن الأموال القطرية المتدفقة إلى الجامعات الأمريكية هو ولا شك جزء من إشكالية أكبر لا تزال تواجه المشرعين الأمريكيين
ما الذي تسعى إليه قطر من خلال محاولات اختراقها للجامعات الأمريكية لاسيما الشهيرة منها والتي تمثل الحاضنة البشرية التي تخرج لها أفضل العقول المنوط بها صناعة القرار السياسي في قادم الأيام؟
قبل الجواب عن السؤال المتقدم ينبغي علينا الإشارة إلى الدور الذي تقوم به الجامعات الأمريكية في الحياة العامة، لاسيما بناء قمم من التميز، ذلك أن جامعات الولايات المختلفة قامت بتحويل نفسها إلى مؤسسات عالمية بعد انتقال أمريكا من مرحلة الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، وعبرت مرحلة ما بعد الحرب وعصر الشبكة المعلوماتية، وقد اشتركت عوامل عدة في نشوء جامعة البحث المميز، منها: إنتاج البحث في الكلية، النوعية وتأثير البحث، المنح وعقود الدعم، الجوائز المشرفة، الوصول إلى طلاب بمؤهلات عالية، تفوق التعليم، التسهيلات المادية، إلى آخر العوامل التي جعلت جامعات أمريكا مصنعا للرجال الكبار سياسياً وعسكرياً، اقتصادياً واجتماعياً، وعلى هذا الأساس فإن من يستطيع توجيه دفة تلك المؤسسات التعليمية بصورة أو بأخرى، لا بد له على المدى الطويل ولا شك من التأثير على مقدرات صانع القرار الأمريكي في الحال والاستقبال.
يبدو أن أموال الغاز القطري ستواجه صحوة أمريكية آتية لا ريب فيها، سيما بعد أن أبدى أكثر من مدعٍ عام مطالبة جامعات بعينها بالإفصاح القسري عن دور الأموال القطرية المخترقة للعقلية الأمريكية
لماذا الحديث الآن عن قطر والجامعات الأمريكية؟
الأمر يبدو متصلاً بأحدث فصول الفضائح القطرية الناجمة عن عقلية رجعية تظن أنها عبر الأموال الطائلة يمكنها أن تتحكم في مصائر وأقدار مؤسسات علمية وتربوية أمريكية لها تاريخ ذائع وضاربة في القدم كمثل جامعة "جورج تاون".. ماذا عن تلك الجامعة تحديداً؟
تعد جورج تاون واحدة من أعرق الجامعات الكاثوليكية الأمريكية وقد تأسست في عام 1789، أي منذ نحو 229 سنة، وقام على تأسيسها "الآباء الجيزويت" أو اليسوعيين، وتعد أهم رهبنة في تاريخ المؤسسة الكاثوليكية، اهتمت بالتكوين العلمي والفكري، سواء الديني أو المدني، وهي جامعة بحثية خاصة ومقرها واشنطن.
تتأتى الأهمية الخاصة لجامعة جورج تاون من كونها رائدة في مجالات القانون والإدارة بنوع خاص، ولهذا كان لعدد كبير من خريجيها أهمية بارزة في الحياة العامة في الولايات المتحدة الأمريكية، وبالقدر نفسه بالنسبة لدول خارجية تلقى مسؤولوها من قبل تعليمهم في الجامعة، ومن بين خريجيها الرئيس الأمريكي الأسبق "بيل كلينتون"، وقاضي المحكمة العليا "أنطون سكاليا"، وعشرات من حكام الولايات وأعضاء الكونجرس، ورؤساء الدول أو الحكومات من أكثر من اثني عشر بلداً.. هل لهذه الخلفية حاولت قطر شراء عقول القائمين عليها بإغداقها ملايين الدولارات على أقسامها المختلفة؟
قبل نحو أسبوعين كانت مجلة "ديلي كولر" الأمريكية وعبر تحقيق لرجلها "لوك روسياك" تميط اللثام عن كارثة حقيقية باتت تضرب العملية التعليمية الأمريكية من خلال التوجهات المالية القطرية، سيما وأن بيانات وزارة التربية والتعليم في الداخل الأمريكي تكشف عن أرقام مثيرة جداً، وتصل إلى نحو مليار دولار، قدمتها قطر لجامعات أمريكية مختلفة منذ عام 2011.
يستلفت النظر التاريخ بنوع خاص سيما وأنه يتساوق مع زمن ما أطلق عليه زوراً الربيع العربي، ولم يكن سوى شتاء أصولي كارثي، والسؤال هنا، هل هو مخطط قطري لحشو رؤوس الأكاديميين والطلاب الأمريكيين بتوجهات أصولية، وبفكر جماعات الإخوان المسلمين بنوع خاص؟
الحديث عن الأموال القطرية المتدفقة إلى الجامعات الأمريكية هو ولا شك جزء من إشكالية أكبر لا تزال تواجه المشرعين الأمريكيين، ولم يخلصوا فيها إلى قرار، تلك المتعلقة بالأموال الخارجية، لا سيما التبرعات لرجال السياسة والأحزاب، وبخاصة في أزمنة الانتخابات، بدءاً من انتخاب أصغر عمدة لأصغر مدينة أو بلدية، مروراً بانتخاب حكام الولايات ونوابها في مجلسي الشيوخ والنواب، وصولاً إلى انتخاب رئيس الجمهورية، ما دعا عددا من كبار المفكرين السياسيين في الداخل الأمريكي لوصف العملية الديمقراطية الأمريكية بأنها باتت تباع على الأرصفة، فهل أضحت المؤسسة التعليمية الأمريكية بدورها نهباً للطامعين في السيطرة على العقول الأمريكية، عبر التحكم في المسارات التعليمية؟
تحقيق مؤسسة "ديلي كولر" الإخبارية الأمريكية يخبرنا بأن القطريين ضخوا في جامعة جورج تاون خلال السنوات الثماني المنصرمة نحو 333 مليون دولار، وهو مبلغ يفوق أي مبلغ آخر حصلت عليه جامعة أمريكية أخرى في الداخل الأمريكي من دولة أجنبية.
على أن السؤال الأشد إثارة "هل كانت تلك الأموال تبرعات وهبات غير مشروطة أم أنها جاءت عكس ذلك ما يعني أنها أموال ساخنة موجهة ومؤدلجة لأغراض لا تغيب عن أعين العارفين ببواطن الدور التخريبي القطري في الشرق والغرب على حد سواء؟".
البيانات المتوفرة حتى الساعة تشير إلى أن الغالبية العظمى من الأموال القطرية التي تدفقت على "جورج تاون"، جاءت في شكل عقود تطالب الجامعة بتقديم أشياء في مقابل المال، وعادة ما تكون دراسات، استطلاعات رأي، الأمر الذي يفتح الباب أمام فضيحة كبرى يمكن أن تؤثر على سمعة ومصداقية الجامعة الشهيرة، أي أن تكون الأموال القطرية الطائلة لها تأثيرات وتجاذبات على المناهج الدراسية أو الاستقلالية الأكاديمية، فيما تتعزز الشكوك بسبب رفض الجامعة الإفصاح عن تفاصيل العقود المبرمة مع قطر.
الاختراقات القطرية الموجهة لجورج تاون تحديداً تضع نصب أعينها أن الجامعة على مقربة ذهنية وشخصية بشكل كبير من وزارة الخارجية الأمريكية، وأن خبراءها عادة ما يقومون بتقديم خدمات استشارية سياسية لصناع القرار في الولايات المتحدة، عطفاً على ذلك فإن الجامعة تقوم بتدريب الكثير من الدبلوماسيين الأمريكيين، والذين يقومون بالتدريس عادة وزراء خارجية سابقين للولايات المتحدة، ما يجعل الطرق والمسالك مفتوحة أمام الطلاب للاتصال بالعالم الخارجي، وغير خاف على أحد قاعدة: "من يدفع للزمار يحدد اللحن"، ويبدو أن هناك خبايا عديدة في داخل جورج تاون سوف تكشف الأيام عن كارثيتها للسياسات الأمريكية وارتداداتها على الشرق الأوسط ودوله.
إحدى مغائر جامعة جورج تاون تتمثل في المركز الذي يديره البروفيسور الأمريكي أستاذ الأديان "جون اسبوسيتو"، والذي روج كثيراً جداً ولا يزال لجماعات الإسلام السياسي في الداخل الأمريكي، وكان من الواضح أن الأموال القطرية لعبت دوراً كبيراً في زخم توجهاته.
ومن رحم المركز الخاص باسبوسيتو ولدت ونشأت عناصر إخوانية عديدة ملأت الإدارات الأمريكية، لاسيما إدارة باراك أوباما التي باركت هيمنة الأصوليين الإسلاميين على الشرق الأوسط قبل ثماني سنوات، وفي المقدمة من هؤلاء جاءت داليا مجاهد، التي اختارها أوباما مستشارة خاصة له لشؤون العالم الإسلامي، ولم تكن أموال قطر بعيدة عن اسبوسيتو أو داليا مجاهد بكل تأكيد وتحديد.
المشين في أوضاع الجامعة الكاثوليكية العريقة أنها تمضي في اتجاه مغاير تماماً لتوجهات الكنيسة الكاثوليكية، وقراءات وتصريحات البابا فرنسيس الرافض لاختراقات المال للمؤسسة الدينية، واعتبار الأمر فضيحة إيمانية لا تتماشى مع الدور الذي يجب أن تقوم به مؤسسة تربوية كاثوليكية تعمل على النقاء والصفاء، الخير والعدالة، الحق والإخلاص.
وفيما ترفض إدارة جورج تاون الإفصاح عن المبالغ المالية التي تلقتها تغض الطرف عن كون عميد فرع الجامعة في الدوحة هو "أحمد دلال"، الذي يوصف في مركز أبحاث "ميدل إيست فورم" الأمريكي بأنه "مؤيد متحمس منذ فترة طويلة لحزب الله اللبناني"، عطفاً على ذلك فإنها تغمض أعينها عن السجل المخزي لحقوق الإنسان في قطر، والمتصل بالعمال الآسيويين الذين يعملون على منشآت كأس العالم المقبل.
عن أي منظومة إنسانية وحقوقية يتحدثون في ظل شراء القطريين شركات العلاقات العامة والإعلام وأخيراً المؤسسات الأكاديمية، لصالح مشروعهم الهدام؟ يبدو أن أموال الغاز القطري ستواجه صحوة أمريكية آتية لا ريب فيها، سيما بعد أن أبدى أكثر من مدعٍ عام مطالبة جامعات بعينها بالإفصاح القسري عن دور الأموال القطرية المخترقة للعقلية الأمريكية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة