من المتوقع، كما أشار رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني خلال زيارته الأخيرة إلى بغداد، أن يزور العاصمة العراقية عما قريب وفد يمثل الإقليم كي يتوصل مع رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي إلى حلول شاملة للقضايا العالقة كافة بين بغداد وأربيل.
من المتوقع، كما أشار رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني خلال زيارته الأخيرة إلى بغداد، أن يزور العاصمة العراقية عما قريب وفد يمثل الإقليم كي يتوصل مع رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي إلى حلول شاملة للقضايا العالقة كافة بين بغداد وأربيل.
إذا صحت هذه التوقعات وأمّ هذا الوفد بغداد، فإن من الطبيعي أن تحتل قضية الاستفتاء الكردي على الانفصال/الاستقلال حيزاً واسعاً من النقاش والتفاوض. فبرأي رئاسة الإقليم أن الاستقلال حاصل، وهو حقيقة واقعة. ولكن هذه الحقيقة تحتاج شرعنة.
والشرعنة قد تتم إما بالتفاهم بين أربيل وبغداد، وإما بقرار احادي يتخذ في الإقليم، وباعتراف وموافقة دولية على هذا القرار. رئاسة إقليم كردستان، أي البارزاني تحديداً، تؤثر أن يكون الطلاق ودياً، وأن يكون بالتراضي بين بغداد وأربيل، أي بين بلدين متجاورين ومستقلين.
هذا هو خيار الزعيم الكردي الذي كرره مراراً، فما هو خيار بغداد؟
هذه هي النقطة الرئيسة التي يتعين البحث فيها بصورة مشتركة بين الحكومة العراقية وبين وفد الإقليم، إذا زار بغداد مثل هذا الوفد.
ولكن هل تقبل بغداد بأن تبحث في صورة رسمية مسألة الاستفتاء على انفصال الإقليم عن الدولة العراقية؟ وإذا وافقت بغداد على البحث في هذه المسألة، فهل تسلم بأن يكون الاستفتاء مقدمة لخروج الإقليم من البيت العراقي إذا كان هذا خيار المستفتين؟ لم لا؟ قد يتساءل مؤيدو هذا الخيار. لقد كان هذا الأمر صعباً للغاية إبان الحرب الباردة ويوم كانت الدول الكبرى تمارس حراسة مشددة على حدود الدول التابعة لها.
أما في العصر الجديد فإن الخرائط السياسية أصبحت عرضة لتعديلات كثيرة.
ومن هذه التعديلات ما جرى بصورة ودية، أي كما اقترح البارزاني. لقد خرجت تيمور الشرقية من إندونيسيا سلماً، وتم طلاق جمهوريتي تشيخيا وسلوفاكيا عبر الآليات الديموقراطية. وأخيراً لا آخراً، قامت دولة جنوب السودان نتيجة استفتاء وبموافقة الخرطوم. لماذا يرفض إذاً العراقي ما قبله شقيقه السوداني عندما وافق على خروج الجنوبيين من الدولة السودانية؟
الطلاق أبغض الحلال، لكن أليس من الأفضل أن يتم الطلاق بأقل قدر من المنازعات والكراهية والأحقاد التي تجتاح سائر أفراد العائلة الواحدة، كما تجتاح الشعوب أيضاً إذا كان طلاقاً بين دولتين وشعبين أو أكثر؟ تأكيداً على صواب هذا الخيار وهذا النهج، يقولون اليوم إن العلاقات بين السودان ودولة جنوب السودان هي أفضل بما لا يقاس بالعلاقات بين الشمال والجنوب قبل قيام الدولة الجنوبية.
بل يقال أيضاً عن العلاقات بين الخرطوم وجوبا إنها أفضل بكثير من العلاقات بين الخرطوم وإقليم دارفور الذي هو جزء من السودان. فلماذا لا تتكرر تجربة الطلاق الودي في شمال العراق كما جرت في جنوب السودان؟ بل ما الضرر في أن تُجرى تعديلات على الخرائط السياسية هنا وهناك في المنطقة العربية إذا تأكدنا أن هذه التعديلات ستهيئ لبسط السلام والرخاء والعدالة في أراضٍ عربية تجتاحها الحروب والمآسي؟ إن تجربة السودان حرية بأن تمدنا، كما يقول بعضهم، بدروس مهمة عن النتائج المحتملة لانفصال شمال العراق عن بقية أجزائه، خصوصاً على صعيد تحقيق الانفصال الودي عن البيت العراقي.
إن ردود الفعل على مشاريع الانفصال التي تمس كياناً سياسياً معيناً تتأثر إلى حد بعيد بحجم هذا البلد ومدى تأثره بهذا المسعى. وعلى هذا الصعيد سنلاحظ أن خروج جنوب السودان من البيت السوداني لم يؤثر على السودان تأثيراً كبيراً. فلا يزال السودان بلداً مهماً على الصعيد الإقليمي، أي في المنطقة العربية، والقاري والدولي.
ويملك السودان إمكانات بشرية وطاقات زراعية كبرى وغير مستغلة.
وإذا أحسنت الخرطوم استغلال هذه الثروات لتحول السودان إلى واحد من أهم دول العالم. لكن السودان ولأسباب عدة لم يحقق هذه القفزة. لم يتحول الى «نمر أفريقي» يضاهي نمور آسيا.
أما انفصال «الإقليم» عن بقية الجسم العراقي فإن تأثيره على بقية أجزاء العراق سيكون أكبر من تأثير الانفصال في السودان.
فالمشروع الانفصالي في العراق يشمل مناطق في المركز وليس في الأطراف. وهذا المشروع سيطاول ثروة العراق النفطية بصورة ملحوظة، وبالتالي فإنه سيؤثر على طاقته الاقتصادية ومن ثم السياسية وسيتحول إلى دولة لا تملك الميزات نفسها التي أهلتها خلال القرن الماضي لأن تكون عضواً في عصبة الأمم وعضواً مؤسساً في هيئة الأمم المتحدة وفي جامعة الدول العربية. فهل يكون حظ «الإقليم» أفضل من حظ العراق؟
للإجابة عن هذا السؤال، من المستحسن أن نتابع ما جرى لمشروع الانفصال في جنوب السودان وما هي النتائج التي أسفرت عنه. خلافاً لما يتردد أحياناً في معرض مناقشة الخرائط والمصائر السياسية في المنطقة العربية، فإن تجربة انفصال جنوب السودان عن شماله جديرة بأن تكون دليلاً على خطر العلاج الانفصالي على الدول التي تعاني من الانقسام وليس على صوابه. لقد صدرت دراسات وبحوث عدة تسلط الأنظار على أحوال جنوب السودان بعد الاستقلال. ومن الكتب التي تسترعي الانتباه وتقدم شهادة حيادية تجاه تجربة جنوب السودان مؤلف وضعته الوزيرة النروجية السابقة لشؤون التنمية الدولية هيلدي جونسون التي عينت مسؤولة عن بعثة الأمم المتحدة إلى جوبا بعد الاستقلال. تتحدث جونسون في كتابها «جنوب السودان من الاستقلال إلى الحرب الأهلية: الرواية غير المعروفة»، تتحدث عن «الآمال التي تحولت إلى أهوال» بعد أن حصل جنوب السودان على استقلاله. وتعرض جونسون الدور السلبي الذي مارسه قادة الجماعات الجنوبية المسلحة والمتحاربة الذين كانوا يمدون المندوبين الدوليين والمنظمات الدولية بالمعلومات المضللة عن أوضاع الجنوب. وتربط بين هذا النهج، من جهة، وبين الترويج للهدف الانفصالي، من جهة أخرى.
كذلك تتحدث جونسون عن بعض «الاكاديميين والخبراء العسكريين والناشطين» من غير السودانيين الذين كانوا يتعاونون مع تلك الجماعات المسلحة ويساعدونها للحصول على الدعم في بعض العواصم الكبرى ولأسباب مصلحية وسياسية أحياناً.
لا نقول إن ما يجري في جنوب السودان سيتكرر في شمال العراق أو في مناطق أخرى من المنطقتين العربية والشرق أوسطية. لكن من المفيد أن يدرس المرء تجارب الدول التي تفككت، خصوصاً بعد انتهاء الحرب الباردة. وإذا كانت أقاليم وشعوب كثيرة اختارت طريق الانفصال والاستقلال استجابة لدوافع سليمة، فإن بعضها مشى على هذا الطريق من دون أن تكون له فيه مصالح أو طموحات حقيقية. هذا ما يدركه كثيرون من القادة في الدول والأقاليم والمناطق التي تطرح فيها مشاريع التقسيم، فيدققون فيها حتى لا يجروا شعوبهم إلى أخطاء تاريخية. في هذا السياق نجد أن أحزاباً وجماعات مهمة في كردستان العراق تنصح بالتأني في طرح مشروع استفتاء الاستقلال، وعدم إدارة الظهر للمكاسب الكبرى المعنوية والمادية التي يجنيها الأكراد والعراقيون الآخرون من جراء بقائهم في البيت العراقي. ولعل رئيس الإقليم مسعود البارزاني ليس بعيداً، كما يعتقد، من هذه الجماعات، خصوصاً أنه يحظى في بغداد بمكانة تفوق مكانة كثيرين من الساسة العراقيين، وهي مكانة تسمح له بأن يلعب دوراً مهماً في ترسيخ الوحدة الترابية للعراق. وإذا صح هذا الرأي فإن ما يقصده حينما يؤكد الطلاق الودي مع بغداد، هو أن يفسح المجال للزعماء العراقيين حتى يقولوا لا للمشروع الانفصالي بحيث يمكن التذرع بهذا الموقف كمبرر للبقاء في البيت العراقي.
*نقلا عن جريدة "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة