عندما انتهت الحرب الأهلية اللبنانية عملياً أوائل العقد الثامن من القرن العشرين، وانهار معها ما كان يسمّى بالحركة الوطنية اللبنانية، راح شاعر لبناني ظريف يتندر بحكاية عن باص حدث له أن سقط في مهوار، لكن مذياعه ظل يعمل صادحاً بالكلام والغناء. كان فحوى النادر
عندما انتهت الحرب الأهلية اللبنانية عملياً أوائل العقد الثامن من القرن العشرين، وانهار معها ما كان يسمّى بالحركة الوطنية اللبنانية، راح شاعر لبناني ظريف يتندر بحكاية عن باص حدث له أن سقط في مهوار، لكن مذياعه ظل يعمل صادحاً بالكلام والغناء. كان فحوى النادرة، أن الباص هو الحركة الوطنية، والمذياع هو أمينها العام الذي بقي يدلي بالتصريحات والمواقف رغم كل شيء.
قد لا يكون دقيقاً اليوم استخدام النادرة الكئيبة نفسها للحديث عن فلسطين، ومع هذا، من الواضح أمام ما يحدث في منطقتنا العربية، أن فلسطين لم تعد أولوية لدى أحد. فهي إن لم تكن في المهوار، تجد نفسها في أحسن الحالات موضوعة على الرف أو في الثلاجة.
أو هذا هو، على أي حال، الانطباع السائد. ومع هذا، جرّب أن تحضر مهرجاناً سينمائياً اليوم في أي مكان في العالم، وجرب أن تطّلع على لوائح تضم ما يعتبر أكثر الأفلام السينمائية العربية حضوراً ونجاحاً منذ سنوات، لتفاجأ هنا، في هذا المجال بالتحديد، بحضور فلسطيني استثنائي.
بل هو استثنائي على غير صعيد. فمن ناحية، من الواضح أن السينما الفلسطينية المنتجة من قبل الفلسطينيين أنفسهم، تبدو من الأكثر تميّزاً، حتى على الصعد الفنية، وليس فقط على الصعد السياسية أو الوطنية.
ومن ناحية ثانية، يمكن للمرء أن يلاحظ في المهرجانات المتنوعة، إقبال الجمهور على الفيلم الفلسطيني وتفاعله معه (مثلاً فيلم مي المصري الروائي الطويل الأول «3000 ليلة»، حصد جائزة الجمهور في عدد بات لا يحصى من المهرجانات والمناسبات). ومن ناحية ثالثة، باتت الأفلام الفلسطينية اليوم أكثر إنسانية وسجاليّة من أي وقت مضى، متخلّية عن تلك القوالب الأيديولوجية الجاهزة، التي كثيراً ما أُلبست إياها، فجعلت التعاطف معها وطنياً سياسياً. اليوم، بات التعاطف ذا طابع فني حقيقيّ.
أما الناحية الرابعة، والجديرة بالاهتمام أكثر من أي شيء آخر، ففحواها أن هذه السينما الفلسطينية الجديدة المنتشرة اليوم على رقعة العالم السينمائية المهرجانية، يكاد عدد النساء بين صانعيها، أن يكون أكبر من عدد الرجال. تكاد تصبح سينما نسائية بامتياز، فمن مي المصري إلى سها عراف، ومن مها الحاج إلى نجوى نجار.
ومن آن ماري جاسر إلى علياء آراصغلي وتلميذاتها، مروراً بليانا بدر ومنى حاطوم... ويمكن للائحة أن تطول، ثمة أمور بالغة الأهمية، تحدث في الثقافة السينمائية الفلسطينية على أيدي النساء الفلسطينيات...
طبعاً قد تبدو هذه الصورة زاهية أكثر مما هي الأمور في حقيقتها. وطبعاً يمثل الوصول إلى تحقيق أي فيلم فلسطيني، ولا سيما إن كان من تحقيق امرأة، مغامرة وتعباً مدهشين.
وطبعاً قد تمضي هذه الأفلام عمرها دون أن تجد صالات جماهيرية عربية تعرضها، وكل مرة بحجج مختلفة. وطبعاً ثمة تفاوت مدهش بين استقبال العالم الخارجي لهذه السينما، وهو استقبال غالباً ما يتسم بالإيجابية والتفهم، والاستقبال العربي، المؤسساتي خاصة، الذي غالباً ما ينبني على ألأم أنواع اللامبالاة.
غير أن هذا كله لم يوقف عجلة هذا الحراك الفلسطيني المدهش، الذي، سواء كان «ذكوريّاً» أو «أنثويّاً»، عن الانطلاق.. كما عن فرض حضور في العالم، لعل أهم ما فيه أنه ليس حضوراً فنياً أو ثقافياً فقط.
بل هو، وهذه خاصّية تتعلق بفلسطين ورمزيتها التي لا تلين، حضور سياسيّ أيضاً.
فمنذ ما يقرب اليوم من ربع قرن، أي منذ أمسك الفلسطينيون بسينماهم بأيديهم، بات ثمة متن سينمائي فلسطيني كبير عرف، بغثه وسمينه، كيف يحفظ نوعاً من ذاكرة فلسطينية، تبدو اليوم متكاملة، وترفدها في تراكم خلاق، أعمال إضافية جديدة في كل عام... هذه الذاكرة السينمائية الفلسطينية، التي تتّسم بنوع من «العمل قيد الإنجاز».
وبالتطوّر اللولبي المتصاعد، فيلماً بعد فيلم وموسماً بعد موسم، تبدو وكأنها تحلّ مكان الكثير من العناصر المتناقصة يوماً بعد يوم في المتاهة الفلسطينية المتشعبة.
وحتى وإن كان من غير الممكن تطبيق نادرة الشاعر اللبناني وباصه الساقط في المهوار ومذياعه الملعلع، على الحالة الفلسطينية، فإن سينما فلسطين تبدو، من وجهة نظر أو من أخرى، وكأنها، اليوم على الأقل في وهدة الهاوية العربية، آخر ما تبقى لفلسطين. فهل نختم قائلين، كم علينا أن نحرص على بقاء وازدهار هذا الذي تبقّى؟.
*نقلا عن جريدة "البيان"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة