يتردد المؤرخ في تحليل أو تقييم عهد قائم أو مرحلة اقتربت من نهايتها خشية أن يتهم بالتسرع في إصدار أحكام غير ناضجة. هذا التردد ليس من شيم المحللين السياسيين والمعلقين الصحفيين إلا فيما ندر أو حيث تندر بالفعل المعلومات الضرورية لوضع تقييم معقول
يتردد المؤرخ في تحليل أو تقييم عهد قائم أو مرحلة اقتربت من نهايتها خشية أن يتهم بالتسرع في إصدار أحكام غير ناضجة. هذا التردد ليس من شيم المحللين السياسيين والمعلقين الصحفيين إلا فيما ندر أو حيث تندر بالفعل المعلومات الضرورية لوضع تقييم معقول.
أعذر كل كاتب سياسي يتعجّل خروج أوباما من البيت الأبيض ، ليصدر حكماً على عهده وعليه ، خصوصاً أنا شخصياً لم أستطع الانتظار ، فكتبت عن مسؤولية أوباما وعهديه عن ظهور دونالد ترامب، باعتباره الظاهرة الأسوأ في مسيرة الانحدار الأمريكي التي يرجح المتخصصون أنها بدأت قبل عشرين عاماً أو أكثر.
قلت إنه ما كان لترامب أو لشخص آخر بصفاته أن يعتلي منصات الترشيح لمنصب رئيس الجمهورية الأمريكية لو لم يصل رجل بصفات باراك أوباما إلى الحكم ، ويقضي ثماني سنوات فيه ، ولو لم يأت على أمريكا عهد كهذا العهد.
لا أنكر أن أوباما دخل حيز اهتماماتي منذ ظهر متحدثاً في حملة انتخابية لا تخصه مباشرة. لفت نظري طلاقة لسانه واعتداده بنفسه وإجادته فنون الخطابة السياسية. لم أتصوّر وقتها أنه، رغم هذه الأرصدة القوية، يمكن لهذا المتحدث المفوّه أن يحلم بمنصب رئيس الجمهورية ، وهو الأسمر القادم من دوائر اجتماعية بعيدة كل البعد عن الطبقة السياسية الحاكمة في الولايات المتحدة.
لم أدرك وقتها أن هذه الطبقة كانت سبقتني إلى تصوري فراحت تعده الإعداد اللازم وتوفر له شروطاً ضرورية. ومع ذلك وعلى طول حملته الانتخابية بقيت مقتنعاً أن الرجل ، وقد برز في كل موقع ورغم فوزه في كل انتخابات فرعية أو تمهيدية ، فمصيره كرئيس هو الفشل في حل أهم وأخطر مشكلة أمريكية، وهي العلاقات بين عنصري الأمة الأمريكية، البيض والسود.
بدون تسرّع في الحكم ، ولكن بكثير من المعلومات والمشاهدات والمقارنات أستطيع القول إن باراك أوباما لم يحقق أمل الكثيرين من أبناء جلدته وملايين التقدميين في خلق أجواء سياسية واقتصادية واجتماعية أفضل تقلل من فرص الصدام بين البيض والسود في أمريكا وتزيد من فرص الاندماج الاجتماعي.
أحكم بهذا استناداً إلى الكثرة المتناهية لحوادث القتل التي راح ضحيتها شبان من السود على أيدي رجال شرطة من البيض وتظاهرات الاحتجاج الواسعة التي جاءت في أعقابها، واستناداً أيضاً إلى المفردات والإشارات العنصرية التي حفل بها الخطاب السياسي لرجل تقدّم للترشيح لمنصب الرئاسة واسمه دونالد ترامب خلفاً لأول رئيس أسود للولايات المتحدة وهو باراك أوباما.
حصل أوباما على جائزة نوبل للسلام. لعل الجائزة ، وقد جاءت في وقت مبكر ، كانت بهدف تشجيعه على تسوية مشكلات دولية حادة بالوسائل السلمية، أو لعلها صدرت مثل مرات سابقة كمكافأة على عمل ارتأته الشخصيات النافذة وراء هذه الجائزة العتيدة حقق هدفاً لها، المثال البارز لدينا من مرات أسبق هو منح الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات وقرينه «الإسرائيلي» شيمون بيريز الجائزة مكافأة على توقيعهما اتفاق أوسلو، وهو من وجهة نظري الاتفاق الذي مهّد بالوسائل السلمية لاستكمال استيطان فلسطين وتصفية قضيتها بعد إفساد أكثر قياداتها. حصل أوباما على الجائزة في مقتبل عهده وأنهى الولايتين ولم يحقق سلاماً في أي مكان في العالم يقع تحت سيطرة أمريكا.
لم يحقق سلاماً في العراق رغم اعترافه المتكرر بمسؤولية أمريكا عن أزمات العراق المتعددة منذ بدأت أمريكا تقصف بالطائرات والصواريخ العراق استعداداً لغزوه وتخريبه وتفجير صراعات محلية وتغيير توازنات قوة إقليمية من حوله. سحب فعلاً قوات من أفغانستان ولم يسحب كل القوات ولن يستكمل انسحابها قبل مغادرته البيت الأبيض، وهو مستمر في إرسال قوات جديدة إلى العراق تحت مسميات مختلفة.
استكمل سحب معظم القوات من أوروبا ولكنه ظهر عاجزاً عن حماية جورجيا وأوكرانيا بوسائل أخرى غير القوة.
بعض هذه الوسائل الأخرى كانت محل سخرية المسؤولين في القارة الأوروبية ، مثل تكليف الحلف الأطلسي بتوفير حفنة من الجنود لتتمركز في دول البلطيق أو العودة إلى نشر قواعد للصواريخ على مقربة من روسيا. الخلاصة المؤسفة لثماني سنوات هي أن أوباما لم يحقق السلام العالمي ولا السلام الإقليمي في أي منطقة ملتهبة بصراع أو آخر.
لم يحقق باراك أوباما السلام. ولكنه وللحق لم يدخل حرباً جديدة. يحب معلقون يساريون وقوميون في أوروبا وخارجها التذكير بأن معظم رؤساء أمريكا شنوا حروباً وغزوات لأسباب ودوافع شتى ، وأن قليلين جداً هم الذين امتنعوا عن الدخول في حروب. إلى هؤلاء القليلين سوف يضيف التاريخ اسم باراك أوباما.
هذا الرئيس الذي يستعد الآن لمغادرة مكتبه البيضاوي الذي شهد ممارسات وأساليب متنوعة في إدارة شؤون الإمبراطورية الأمريكية ، نعترف له بأنه لم يفعل ما فعله الرئيس ترومان عندما قرر غزو شبه جزيرة كوريا، أو ما فعله الرئيس جونسون عندما قرر أن يحل محل الاستعمار الفرنسي في الهند الصينية فبعث بخيرة قواته إلى فيتنام.
ولم يفعل ما فعله الرئيس نيكسون عندما أمر قواته الجوية والبرية تدمير دولة كمبوديا وإبادة ما شاءت إبادتهم من المدنيين ، تنفيذاً لخطة شريرة ووحشية ابتدعها هنري كيسنجر ونفذها ولم يندم يوماً. كذلك لم يفعل أوباما ما فعله الرئيس جون كينيدي في مرحلة مبكرة من الحرب الباردة حين أعطى الإذن لوكالة استخباراته بشن حرب ضد جزيرة كوبا بقوارب من البحر ، فاستحقت الوكالة الهزيمة وسجلها التاريخ تحت عنوان معركة خليج الخنازير.
فعل الرئيس ريغان فعلاً مماثلاً في نهاية الحرب الباردة حين شنّ حرباً سريعة ضد جزيرة غرانادا فأسقط حاكمها ، وحرباً سريعة أخرى ضد بنما ليعتقل حاكمها ويودعه سجناً في ولاية أمريكية أظن أنها تكساس ، استعداداً لمحاكمته متهماً بتشجيع تهريب المخدرات. أكرر أن أوباما لم يفعل شيئاً من هذه الأفعال التي مارسها أسلافه من الذين تربّعوا على عرش القوة في واشنطن.
ما زلت عند اقتناعي أن التاريخ سوف يحسم المواقف من فترة رئاسة باراك أوباما ، بعد أن يكون المؤرخون قد توقّفوا طويلاً أمام واحدة من أقذر وأسوأ وأحط صراعات الدول، وهو الصراع على سوريا.
*نقلا عن جريدة "الخليج"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة