أمين معلوف.. أيقونة التنوّع الثقافي في الرواية العالمية
خبرة الكاتب اللبناني العالمي أمين معلوف بالحرب الأهلية التي عاش أول فصولها في بيروت مثَّلت بوابته الأولى لاكتشاف مخاطر "حروب الهويات".
يعدّ الكاتب اللبناني العالمي أمين معلوف أكثر الكُتّاب تعبيراً عن فضائل التنوّع الثقافي، إذ كرّس أعماله الإبداعية والفكرية لدعم المفاهيم التي تعزّز التنوّع، وتُدافع عن قيم التعايش المشترك، إلى جانب التحذير ممّا سمَّاه "الهويات القاتلة".
ويعرِف المتابع لمسيرة معلوف، الذي اختارته جائزة الشيخ زايد للكتاب على رأس المُكرّمين كشخصيات فاعلة، كيف أنّ خبرته بالحرب الأهلية اللبنانية، التي عاش أول فصولها في بيروت قبل أن يهاجر إلى فرنسا، كانت بوابته الأولى لاكتشاف مخاطر "حروب الهويات" والصدامات الثقافية.
وُلِد معلوف في بيروت يوم 25 فبراير/ شباط 1949، وامتهن الصحافة بعد تخرّجه، فعمل في الملحق الاقتصادي لجريدة "النهار".
وانتقل سنة 1976 إلى فرنسا حيث عمل في مجلة "إيكونوميا" الاقتصادية، ثم أصبح رئيس تحرير مجلة "جون أفريك"، قبل أن يتحصّل على جائزة "أمير أوسرترياس" الأدبية، ويتفرّغ للأدب سنة 2010.
ومنذ إصداره الأول "الحروب الصليبية كما رآها العرب"، عام 1983 عن دار "لاتيس"، بدا انشغاله بما سمَّاه إدوارد سعيد "هوية الهجنة الثقافية"، إذ وجد معلوف في التاريخ مرايا عاكسة لقسوة التحوّلات، لذلك خلُص تأمّله الإبداعي في الحروب الصليبية إلى أنها النموذج الأعلى للصدام على أسس دينية وثقافية.
ونشر معلوف سنة 1986 روايته "ليون الأفريقي" بغية ترسيخ وتعميق فكرة احترام الخصوصيات الثقافية والمجتمعات المحلية، مستنداً في طرحه إلى شخصية الرحالة "حسن الوزان"، فجولاته وصَوَلاته نقلَت أحداثاً عدة حول الصراع والانفتاح الحضاري، حيث قصَّت الرواية أطوار سقوط غرناطة ومعاناة "الموريسكيين" مع الإسبان، ثم معاناة سكان القاهرة بعد سقوطها في قبضة العثمانيين الغزاة، وأخيراً وقوع روما بِيد الكاثوليك.
ولم يكن غريباً أن تحظى كتابات معلوف بتقدير عالمي، وتحصد جوائز جمّة أبرزها "جائزة الصداقة الفرنسية العربية" عام 1986، عن روايته "ليون الأفريقي"، و"جائزة غونكور" كبرى التتويجات الأدبية الفرنسية التي نالها سنة 1993 عن روايته "صخرة طانيوس".
ويبدو الأرشيف العائلي لمعلوف كأنه تمثيل شخصي لمعنى الدفاع عن فضائل التنوّع الثقافي والتسامح، فقد
وُلِد الثاني من بين 4 أطفال، وانتمت أسرة والديه إلى قرية جبلية لبنانية تُدعَى "عين القبو"، وتزوَّج والداه في القاهرة عام 1945، حيث وُلِدت أمه أوديت لأب مسيحي ماروني أصوله من "عين قبو"، ثم غادر إلى العمل في مصر، وتزوّج هناك من سيدة تركية المولد.
وعبر البحث في الأرشيف العائلي الذي اتسّم بالتنوّع والحوار البنّاء، أدرك معلوف أنّ قدره هو التعبير عن هذه "السبيكة الحضارية" المُكوَّنة من هويات عدة، انصهرت في أسرة واحدة، ثم عزّزت دراسته علم الاجتماع من وعيه بقيمة "أنثروبولوجيا الأعراق" التي تكاد تكون عصب مشروعه الإبداعي.
ومن الصعب العثور على عمل واحد من أعمال معلوف لا يعالج هذه القضية، فرواية "سمرقند" التي نشرها سنة 1988 مهمومة بفكرة اللقاء بين الحضارات، إذ تحتوي مخطوطة "سمرقند زهرة الشرق تحملها زهرة الغرب” حول رباعيات الخيام.
وتعدّ روايته "صخرة طانيوس" تعبيراً عن رفضه فكرة الهوية الحضارية الخالصة والانتصار لـ"الهوية الهجين" القائمة على الانفتاح، حيث يعاني الفتى “طانيوس” من الإشاعات التي يتم تناقلها في قريته “كفريقدا” بشأن هوية والده الحقيقي، دون التغافل عن وجود السؤال الأكبر المتعلق بالهوية الوطنية في الشام بعد الهيمنة العثمانية.
وفي روايته "التائهون" التي نشرها عام 2012، يقارب معلوف موضوعاً معاصراً، حيث يتطرّق إلى وطن مزّقته الحروب والانقسامات ليغدو الهرب منه مبتغى كلّ مواطن، بِغرض البحث عن بلد بديل يتميّز بالاستقرار والأمان.
وتبدو الرواية التي ألّفها عقب انتفاضات 2011 كأنها رواية عن الأثمان القاسية للأمل، إذ تنقل حوارات عن مجموعةِ أصدقاء فرَّقتهم الحرب الأهلية في لبنان، لأنهم ينتمون إلى أديان مختلفة، لكنّ وفاة أحدهم تعيدهم من جديد إلى تأمّل المصائر ونتائج التعصّب والنزاعات.
ولم تخلُ مؤلفات معلوف الفكرية من رؤى نظرية حول الموضوع، فقد أسّس بكتابة "الهويات القاتلة" طرحاً خلاقاً لفكرة الصدام الحضاري قائلا: "أن تحترم الآخر هو أن تعترف به، وأن تقيم نوعاً مغايراً من الصلة أو العلاقة معه ومع ثقافته، فمصطلح التسامح هذا كان مقبولاً ومستساغاً في القرنين الـ15 والـ16، أمّا الآن فإنّه لم يعد كافياً، نحن مدعوّون إلى أن نعي ونعرف بأنّنا نتقاسم الكوكب الأرضي، وأننا أناس نختلف في اللغات والدّين واللون والوضع الاجتماعي وفي الجنسيات.. الإشكالية الأساسية للقرن الـ21 هي كيف يمكننا أن نعيش جميعاً في انسجام ووئام فيما بيننا، وقليل من البلدان تواجه أو تعالج هذه المسألة بالجديّة المطلوبة، والجدليّة الصحيحة".
وفي كتابه الأخير "غرق الحضارات"، قال: "التراجع يهيمن على العالم الآن، فلم يعد هناك مجال للحديث عن منتصرين لأن القيم الحضارية التي ترعاها القوى الدولية الكبرى تفقد مصداقيتها الأخلاقية، وأصبح الكاتب على قناعة تامة كاملة مفادها (إننا على عتبة غرق شامل يؤثر على جميع جنبات الحضارة)".
ومع ذلك لم يفقد معلوف الأمل تماماً في الحاجة لتضامن عالمي موضحاً: "في ظل العولمة التي نحياها، والتقدّم التكنولوجي الذي نشهده، من الصعب الفصل بين الشعوب بعضها البعض، ومن ثم حضارات الشعوب نظراً لارتباط بعضها ارتباطاً عضوياً، فهناك أمم ناشئة أو وليدة، مثل الصين والهند وروسيا، تظهر وبقوة الآن على الساحة الدولية التي يسيطر عليها سباق التسلح، وتفرض نفسها على الجميع، فضلاً عن التهديدات الخطيرة المتعلقة بالمناخ والبيئة والصحة، وهي تهديدات تلقي بظلالها على الكوكب، وبالتالي لن نتمكن من مجابهتها إلا بالتضامن الشامل الذي يجب أن نتحلى به لأنه يمثل السبيل الوحيد أمامنا للخلاص من التهديدات المحدقة بنا".