سيكتب التاريخ أن أزمة أوكرانيا ستكون نقطة تحول كبرى في عالمنا المعاصر، سوف تشكل هيكل وطبيعة النظام الدولي خلال ما تبقى من القرن الحادي والعشرين.
كذلك كانت هذه الأزمة لحظة تاريخية كاشفة عن حالة الفقر والبؤس التي يعيشها العقل السياسي العربي ممثلا في كثير من مثقفيه وكتابه ومحلليه السياسيين، وكذلك كثير من الصحفيين والأجندات التي تتحكم في بعض الفضائيات العربية.
فبعد متابعة معمقة وواسعة لوسائل الإعلام الناطقة بالعربية التي خصصت أياما كاملة وطويلة لتغطية هذه الأزمة، يمكن القول إن التحليل السياسي العربي لا يخرج عن واحد من التوجهات الآتية البعيدة كثيرا عن حقائق الواقع والخلفيات العميقة له، والرؤية المستقبلية لتداعياته:
أولا: الاتجاه الغرائزي الذي يوظف التحليل السياسي للانتقام من الخصوم، فقد انشغل كثير من المحللين، وبعض الفضائيات العربية بالتشفي في روسيا الاتحادية، ومحاولة إدانتها بكل الجرائم، والتضخيم المبالغ فيه للمشهد على الأرض، وتتبع كل ساقطة ولاقطة.
وبغض النظر عن الموقف الأيديولوجي من روسيا أو أوكرانيا، إلا أن هذا المشهد الإعلامي يمثل سقطة خطيرة تبين إلى أي حد مازال هناك الكثيرون ممن يتصدرون المشهد الإعلامي والفكري والثقافي لم يصلوا إلى مراحل النضج العقلي بعد، وأن الأمانة في التعامل مع المشاهد تستوجب درجة أعلى من الترقي العقلي الذي لا يخلط بين النوازع الشخصية للمحلل السياسي أو الصحفي أو الكاتب، وبين الحقائق التي تؤثر على مجتمعاتنا، ومن ثم لابد أن نراها على حقيقتها، وليس كما نتمنى لإرضاء غريزة التشفي والانتقام.
ثانيا: اتجاه الانسحاق أمام آلة الإعلام الغربية، والتبعية الكاملة لها، وتحول المحلل السياسي العربي إلى مجرد مترجم لما يتم نشره وبثه في وسائل الإعلام الغربية، والكثير من المحللين السياسيين العرب لا يخفون ذلك؛ فتجد أحدهم يتفاخر بأنه قرأ تحليلا في صحيفة كذا، أو مجلة كذا الناطقة بإحدى اللغات الأوربية، ثم ينقل كل ما جاء فيه على أساس أنها حقائق لا تقبل النقاش؛ "لأنها جاءت من سادة العالم، ومن منبع الحقيقة فيه"، دون يدرك أن هذا الصراع هو في حقيقته بين الغرب ممثلا في أوروبا وأمريكا وامتداداتهما الحضارية من جانب، وروسيا و الصين من جانب آخر. هذا التوجه للأسف يعمق حالة التبعية العقلية عند القارئ والمشاهد العربي، ويشكل وعيه السياسي بصورة مشوهة تقترب من "الأولتراس الكروي" الذي يشجع فريقا معينا في كل أحواله. والسياسة في جوهرها مصالح، ولابد من نشر وعي سياسي يحفظ مصالح الأوطان العربية، وليس مصالح السيد الحضاري الأعظم في الغرب.
ثالثا: الاتجاه السطحي الغارق في الأخبار والأحداث دون أن يبذل جهدا للنظر والتعمق في الخلفيات والماورائيات، والماقبليات لهذه الأحداث، فالأزمة الأوكرانية بدأت يوم 24 فبراير، ولا شيء قبل ذلك، هذا التوجه هو الأغلب والأكثر انتشارا؛ حيث يغرق المحلل السياسي، أو الصحفي في تتبع التصريحات، ورصد التحركات والأحداث دون أن يقدم أي خلفية لتلك الأحداث، فيتحول من يدافع عن أمنه إلى معتدي، ويتحول المستفز الذي يتحرك لتحقيق أهداف دول أخرى إلى ضحية...وهكذا، تنقلب جميع الصور والوقائع، لأن العقل السياسي الذي يتناولها سطحي، بدون ذاكرة، ولا يعرف معنى للتاريخ، ولا دور له في تشكيل الواقع المعاصر.
رابعا: الاتجاه المهزوم نفسيا، الذي يقيس كل الكون على حالته وواقعه، ويستعيد المقولات التاريخية التي صاحبت دخول المغول أو التتار إلى بغداد في القرن الثالث عشر الميلادي، حيث انتشر بين سكانها أن "التتري لا يهزم ولا يغلب"، فكانت تقوم المرأة المثلمة من التتار بقتل عشرات الأشخاص بدق رؤوسهم بالحجر بعد أن يضعوا رؤوسهم طواعية على الأرض، كذلك يفعل الكثير من المحليين والصحفيين الذين يرون أن من يعادي الغرب لابد أن يكون مصيره مصير صدام حسن ومعمر القذافي، وللأسف يقارنون بين الرئيس الروسي وبين الراحلين صدام والقذافي. وهذا التبسيط العقلي المنسحق حضاريا يثير الشفقة، ولكن تفتح له الفضائيات والصحف، لترسيخ العقلية الانهزامية في الوعي الجمعي العربي.
إن المشهد الإعلامي العربي المصاحب للأزمة الأوكرانية مشهد غاية في البؤس، يصيب من يتابعه بخيبة أمل كبيرة على الرغم من أن هذه الأزمة سوف تؤثر على الدول العربية بدرجات متعددة ومتفاوتة، ولكن تأثيراتها مهمة واستراتيجية في جميع الأحوال، وكانت تستحق أن تتم قراءتها بصورة عميقة تليق بخطورتها وأهميتها وتأثيرها على مستقبل النظام الدولي برمته....وللحديث بقية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة