أحترمها كسياسية ومفكرة جلست على مقعد المستشارية الألمانية فى فترة تاريخية صعبة، هذا إن لم تحقق انتصارا تصويتيا فى انتخابات هذا العام،
اختلف كثيرا مع التوجهات والبرامج السياسية للسيدة أنجيلا ميركل المستشارة الألمانية. فهى تنتمى لتيار سياسى يجسده الحزب الاشتراكى الديمقراطى المسيحى المشار إليه دائما باللغة الألمانية بـالـ .cdp إلا أنى أحترمها كسياسية ومفكرة جلست على مقعد المستشارية الألمانية فى فترة تاريخية صعبة بدأت عام 2005 لتستمر حتى عام 2017. هذا، إن لم تحقق انتصارا تصويتيا فى انتخابات هذا العام، وهى انتخابات لن تكون سهلة ليس بسبب سياسات المستشارة الداخلية وإنما بسبب موقفها العام والثابت من قضية المهاجرين العرب وغير العرب إلى بلادها عام 2016 وما قبلها.
وسبب إعجابى بها واحترامى لها كان ولا يزال هو تمسكها بكل دقة، وفى أصعب الظروف، بالدستور الألمانى وضوابطه وروحه الديمقراطية والحقوقية. وقد تجسد موقفها هذا عام 2016 ابان ازمة المهاجرين الهاربين من جحيم حرب الارهاب التى شنت فى كل من سوريا والعراق. فى هذه الازمة فتحت المستشارة ميركل الابواب الالمانية لثمانمائة ألف مهاجر بين طفل وامرأة وشاب ومتقدم فى السن. وسواء كان ساريا على قدميه أو محمولا أو مدفوعا على مقعد متحركٍ. فكانت الدولة الأوروبية وغير الأوروبية الأولى فى استيعاب عدد المهاجرين السوريين والعراقيين وبعض المتسللين من جنسيات اخري، افغانية وباكستانية.
وقد تمسكت المستشارة الالمانية بموقفها بالرغم من كل التنبيهات التى وجهت لها والتى اشارت إلى امكانية تسلل عناصر إرهابية وسط هذه الجموع الغفيرة التى اخترقت حدود البلدان باحثة عن مأوى آمن تسكن إليه. كما أنها تمسكت بهذا الموقف الإنسانى الحقوقى مع علمها وعلم الجميع بنمو ذلك التيار الشعبوى اليمينى الذى ينمو فى أوربا رافضا الآخر أيا كان هذا الآخر بسبب الدين او اللون وخاصة ذلك الآخر المسلم. وللحقيقة كان ذلك الآخر المسلم مقبولا من الجميع فى ألمانيا فى السابق. فالدولة الألمانية كانت ولا تزال تضم عددا يزيد قليلا على اربعة ملايين مسلم كما ان بها 2500 مسجد تمثل كل الطوائف الشيعية والسنية والأحمدية والأخرى التى كانت تعيش بيننا دون تمييز فى السابق. توجهت اعداد منهم إلى المانيا من تركيا ومصر والعراق وسوريا ومن شمال افريقيا. ولكن تستمر اغلبيتهم من تركيا.كما استمرت كل هذه الطوائف تمارس الشعائر الدينية فى المساجد دون تدخل من الدولة. إلى ان تم اكتشاف العلاقة بين احداث سبتمبر عام 2001 وبين خلية ارهابية خرجت من هامبورج حيث كان يعيش محمد عطا قبل انتقاله إلى الولايات المتحدة الأمريكية للمشاركة فى احداث برجى نيويورك.منذ ذلك التاريخ تغيرت بعض التوجهات تجاه المسلمين من عدد من التيارات السياسية اليمينية والفاشية الجديدة والشعبوية.وهى التيارات التى تقف الآن فى مواجهة ميركل فى الانتخابات والتى يشتد فيها الهجوم على المستشارة كلما وقع حادث ارهابى فى ألمانيا. والمستشارة الألمانية من مواليد مدينة هامبورج عام 1954.من هذه المدينة الألمانية الغربية انتقل والدها إلى المانيا الشرقية فى نفس العام ولم تكن الطفلة قد اكملت عامها الأول. وفى موطن الاسرة الجديد فى بلدة تمبلن نشأت الطفلة فى مناخ اسرى دينى مع ميل والدها القس إلى الأفكار الاشتراكية دون الانخراط فى السياسة. وتلقت تعليمها إلى أن باتت استاذة فيزياء جامعية. وكانت متحفظة فى آرائها السياسية إلى أن بلغت الخامسة والثلاثين عام1989 عام سقوط حائط برلين وبدأ نشاطها السياسى بانتقاء شديد من مستشار ألمانيا حينذاك هيلمونت كول عندما كان يبحث ان امرأة تتعاون معه فى الوزارة، والأفضل لو كانت من الشطر الشرقي. كإشارة لإدماج الشطرين.فكانت بداية ميركل السياسية فى وزارة المرأة ثم فى وزارة البيئة. وسرعان ما تقدمت ميركل لتصبح عضوا فى برلمان عام 2000 ثم تدخل فى صراع مع هيلموث كول، الذى تبناها قبلا، وتزيحه من رئاسة الحزب وبالتالى تصبح اول امرأة تصعد إلى مقعد المستشارية عام 2005 مستندة على برلمان يعمل ويحافظ على دستور وضع وتم التصديق عليه من الشعب فى 8 مايو عام 1949 ثم وافق الحلفاء عليه، الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، فى 12 مايو من ذات العام، أى بعد أربعة أيام من موافقة الشعب الألماني.
وبسبب نشأتها فى تمبلن فى المانيا الاشتراكية، يفسرون ميلها لمبادئ التضامن الاجتماعى وللعمل مع النقابات بغض النظر عن انتماءات حزبها أو ائتلافها الحاكم.
ومنذ ذلك التاريخ استمر الدستور الألمانى بمواده التاسعة عشرة الأولى المعروفة بالمواد الحقوقية الأساسية هى المواد التى تضمنها الدولة.هذا الدستور الذى استمر، منذ عام 1949، هو القوة التشريعية الأولى فى البلاد ولا يمكن تجاوزه أو خرق أى من مواده وتحديدا تلك المواد الحقوقية الانسانية التاسعة عشرة الاولى منه. ولاشك ان هذا الدستور عندما تمت صياغة مواده بمضمونها الحقوقى المتقدم عام 1949 عكس الرغبة العامة والشديدة، المحلية والعالمية، فى التمسك بكل الحقوق التى انتهكتها النازية خلال حكم هتلر من عام 1933 إلى عام 1945 واذاقت هذا الانسان الألمانى وغيره من المواطنين فى البلاد الأخرى القهر والقتل والاذلال. لذلك تم صياغة اولى مواده مؤكدة ان «كرامة الانسان غير قابلة للانتهاك». ثم تأتى المواد الأخرى الخاصة بالحقوق الأساسية الخاصة السكن والصحة والتعليم إلى آخر تلك المتطلبات الاساسية الحياتية. كان رأى الذين صاغوا الدستور أو الذين وافقوا عليه، أن على الدستور بمواده الحقوقية أن يحمى البلاد من عودة الفاشية.
استنادا على هذه المادة الأولى من الدستور استندت ميركل فى موقفها من الزحف البشرى من سوريا والعراق. شرحت ان الدستور الالمانى يجبر الدولة على احترام كرامة الانسان اى كان هذا الانسان. لم تتناول القضية من زاوية «الامومة» أو احتياج البلاد إلى اليد العاملة او على اساس تحمل مسئوليتها ومسئولية بلادها عن البعض من ذلك الدمار الذى لحق بالبلدين الشقيقين سوريا والعراق. وانما استندت على الدستور ومواده الحقوقية الاساسية للإنسان، كإنسان وليس فقط كألماني، بغض النظر عن عرق هذا الانسان أو دينه أو سنه أو نوعه الاجتماعى أو حتى واقعه الاجتماعي. حتى بعد وقوع احداث الارهاب فى بلادها، لم تنتهك ميركل الدستور وانما طلبت من المسئولين فى الموطن الأصلى للمتحفظ عليهم والذين هم على قوائم طلب اللجوء السياسى تسلم مواطنيهم. وكانت تونس هذا الموطن الأصلى فى هذه الجولة.وهو موقف لا نعرف بالضبط استمراريته من عدمها إذا ما هزمت ميركل فى انتخابات العام الحالي، عام 2017 وجاء اليمين الشعبوى إلى سدة الحكم فى البلاد. هل نشاهد ذات الزحف البشرى يتكرر، ولكن، فى هذه المرة، فى حالة اياب وليس ذهابا.
هكذا يشكل الإرهاب الأسود أحداث تاريخنا.
* نقلا عن صحيفة الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة