اختبر العالم العربي في القرن العشرين ثلاث «يوتوبيات» فكرية وسياسية رئيسية، وهي القومية والاشتراكية والإسلامية، بصيغها الحزبية
يسخر التاريخ من «اليوتوبيا» (الطوباوية أو المثالية) حين يكشف عن عدم قدرتها على تحقيق ما هو مأمول منها للشعوب، أو عدم قدرة أصحاب «اليوتوبيا» من مفكرين وسياسيين وأحزاب ونخب ونظم سياسية على تحويل تلك «اليوتوبيا» إلى واقع، بل ما هو أفظع دائماً أن يعمل أصحاب «اليوتوبيا» ضدها، خدمة لمصالح ضيقة للفئة التي ينتمون إليها، متناسين أن تلك «اليوتوبيا» التي بشّروا بها هي «يوتوبيا» خلاصية للجماعة الوطنية أو القومية، وهكذا ينفتح التاريخ على مواجهات عبثية، مضادة لحركة التاريخ التقدمية، وهو الحال الذي تشهده أجزاء مهمة واستراتيجية من عالمنا العربي.
لقد اختبر العالم العربي في القرن العشرين ثلاث «يوتوبيات» فكرية وسياسية رئيسية، وهي القومية والاشتراكية والإسلامية، بصيغها الحزبية، والتي وصل بعضها إلى السلطة في غير بلد عربي، وقد جرّت تلك الأحزاب وراءها مجموعات ومجتمعات كاملة، رافعة شعارات كبيرة عن الوحدة والحرية والاشتراكية وإعلاء راية الأمة ومقاومة العدو الصهيوني، وغيرها من الشعارات التي احتلت مساحة عقود كاملة من عمر شعوب المنطقة، بينما كان الواقع يتحرك فعلياً في مسار مختلف، نستطيع اليوم أن نرى بوضوح مدى الشرخ بين هذا الواقع وتلك الشعارات التي رُفعت من أجل تغييره.
ومنذ خمسينات القرن الماضي تصارعت تلك «اليوتوبيات» الثلاث فيما بينها، ولم تعرف نقداً جدياً من قبل الأحزاب والنخب التي تبنّتها، بل إن كل واحدة من تلك «اليوتوبيات» شهدت تفريخ العديد من الكتل السياسية التي راحت هي الأخرى تتصارع فيما بينها، وتدّعي كل واحدة منها أنها تمثل الخط الفكري والسياسي الصحيح لليوتوبيا التي تتبناها، وهو ما يؤكده المشهد السياسي العربي الحافل بعشرات الأحزاب والتيارات والجماعات القومية والاشتراكية والإسلامية، وقد تحوّلت هي ذاتها إلى حجر عثرة أمام تغيير الواقع العربي، عوضاً عن أن تكون رافعة لتغييره نحو الأفضل، بحسب ما تدّعيه في أدبياتها وبرامجها وشعاراتها.
وفي خلطات عجيبة مزجت بعض التيارات السياسية بين أكثر من يوتوبيا، كما في الحركات القومية الاشتراكية، ومثالها البعث والناصرية، أو بعض التيارات الإسلامية التي مزجت بين طابعها الأممي وشعاراتها في العدالة الاجتماعية. إن تلك الخلطات التي أريد من خلالها بناء خطاب شمولي يطال أكبر عدد من القضايا، وحشد أكبر عدد من الفئات المؤيدة، لم تتمكن من تغيير واقع الفئات التي ناصرتها حتى عندما تسنّى لها أن تكون في موقع الحكم والسلطة، فقد فشلت في تغيير الواقع الاجتماعي والاقتصادي لتلك الفئات، بل إنها عمّقت من بؤسها المعيشي، ودمّرت إمكاناتها البشرية. ويكفي أن نلقي نظرة على واقع العمال والفلاحين في عالمنا العربي لندرك مدى الجريمة التاريخية التي ارتكبتها الأحزاب التي حكمت باسمهم.
وإذا كانت الأحزاب القومية والاشتراكية قد تمكنت من الحكم، بينما بقي الإسلاميون في موقع المعارضة، فإن الإسلاميين لم يستفيدوا من الدروس السابقة في فشل «اليوتوبيا»، وهو ما كشفت عنه انتفاضات ما يسمى «الربيع العربي»، فقد اعتبروا أن فشل «اليوتوبيا» القومية والاشتراكية دليل على صحة اليوتوبيا التي يحملونها، وأن الواقع ينتظرهم كمخلصين، وأن الفرصة التاريخية قد حانت لوصولهم إلى السلطة، غير مدركين لحركة التاريخ الذي لم يعد يقبل بأي «يوتوبيا» شمولية، مهما كانت طبيعتها، وأن الشعوب حين خرجت ضد نظمها السياسية فلأنها شبعت من الشعارات الكبيرة، وتريد أن ترى تغييرات مباشرة على حياتها، في الفضاءات الاقتصادية والقانونية والتعليمية والخدمية والصحية، وليس من أجل مفاهيم هلامية، غير محددة، ولا يمكن تعيين مفرداتها الواقعية.
هذا المسار التاريخي يمضي اليوم نحو نهايته، ليعلن موت «اليوتوبيا» في العالم العربي، وقد يستغرق هذا الموت وتعبيراته الفكرية والسياسية ردحاً من الزمن، يبدو أنه سيطول، نظراً لممانعة القوى الشمولية لحركة التاريخ، وقد نشهد مزيداً من الخراب العربي، ومزيداً من الكوارث والمآسي، لكن في خضم كل ذلك تولد مقاربات جديدة، وقوى أكثر عقلانية، وأقل شمولية، تستمد مقاربتها للقضايا الرئيسية من الواقع نفسه، وليس عبر اللجوء إلى «اليوتوبيا»، وهذا هو المسار الذي اتخذته حركة التقدم التاريخي في البلدان التي عرفت نهضة كبيرة في اقتصاداتها وبناها السياسية والاجتماعية.
وفي هذا الخضم الذي تموت فيه «اليوتوبيا» في عالمنا العربي وتولد فيه العقلانية، ثمة أثمان باهظة كبيرة، علّ قدرتنا على فهم التاريخ تسعفنا على تقليل آلام المخاض.
* نقلا عن صحيفة الخليج
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة