في وداع دولة الرفاه والرعاية
إن انتهاء مرحلة الرفاه، ومغادرة مرحلة دولة الرعاية، سوف تخلقان نوعًا من التأزم في المستقبل،
تراجع أسعار النفط بشكل دراماتيكي، وما نجم عنه من شح في موارد الميزانية العامة للدولة، وما دفع إليه من زيادة الاقتراض وارتفاع الدَّين العام إلى الخط الأحمر، سوف ينتج عنه أمران محتملان تؤشر اليهما الأوضاع الحالية:
- الأول: تراجع نسبة النمو وزيادة احتمال حدوث انكماش اقتصادي وتراجع عدد الوظائف التي يمكن ان يوفرها سوق العمل.
- الثاني: تزاد حجم الإكراهات، التي من بينها اللجوء الى تقليص الدعم المقدم للمواطنين، وتراجع فرص التوظيف في القطاع الحكومي، والاضطرار الى فرض رسوم وضرائب جديدة على الدخل والخدمات التي تقدمها الدولة، وهي خيارات الضرورة التي ستكون موجعة في حال إقرارها والتوسع فيها، فضلاً عن الإجراءات المتوقعة بالنسبة للصناديق الاجتماعية التي تعاني بدورها من مشكلات كبيرة هيكلية ومالية وإدارية، تجعلها مهددة بالعجز عن الوفاء بالتزاماتها.
ومن الواضح ان موجة الغلاء التي مست كافة الفئات والطبقات الاجتماعية هي أحد تجليات هذه الازمة، إذ ليس بيد الدولة من حلول سوى المحافظة على التوازنات العامة للميزانية، حتى لا تضطر الى اللجوء الى معالجات صعبة في المستقبل، اذا ما تطورت الأمور لا قدر الله، فلا مناص من اللجوء الى الحد من التعويضات، وإعادة النظر في أوجه صرفها، وفرض الرسوم والضرائب والحد من المزايا لتقليص العجز حتى تتمكن الدولة من مواصلة إدارة المرافق العامة بالصورة المعقولة.
والمواطن مستعد لتفهم هذا الوضع، اذا ما كانت الإجراءات معتدلة ومتدرجة ومتوازنة، إلا ان بعض الأصوات بدأت تتعالى منذرة بزوال مرحلة الرفاه والرعاية، وبتآكل القدرة الشرائية وتقلص مساحة الطبقة الوسطى، وتراجع مكانتها في المجتمع، مع انها أساس الأمان والاستقرار، فكلما كبر حجمها تحقق الاستقرار، وكلما تقلصت مساحتها تخلخل البنيان العام. فالمؤشرات تشير إلى تراجع دور الطبقة الوسطى، وتقهقر مكانتها، مما ستكون له آثار سيئة على الوضع العام في المستقبل.
وبغض النظر عما يثيره مثل هذا الطرح من إشكالات نظرية، فإن البنية الاجتماعية في مجتمع جزء كبير من الناس فيه هم موظفون لدى الدولة، لا يمكن القبول معه بتحليل تبسيطي يتحدث عن (طبقة وسطى) بشكل نظري، وكأنها واقع راسخ ومكتمل وواضح، فليست الأمور عندنا بهذا الوضوح، ولذلك فإن ما يطلق عليه عندنا اسم طبقة وسطي يكاد يكون تسمية مجازية، فرغم أن علماء الاجتماع وخبراء الاقتصاد يفضلون الحديث عن «طبقات وسطى» (بصيغة الجمع)، فإن التقارير الرسمية مازالت تحدثنا عن توزع السكان حسب شرائح الإنفاق، فتجعل الطبقة الوسطى هي الفئة السكانية متوسطة الدخل، مع اختلاف شديد في تحديد هذا المتوسط في أدناه وأقصاه، حيث تقف هذه الطبقة – وفقا لهذا التعريف – بين من هم في قمة الهرم الاقتصادي وبين أولئك القابعين في قاعه أو تحت خطه الأسود. ومن الناحية الاجتماعية والثقافية، تتميز هذه الطبقة طبقة بالرضا والاستكانة، تنشد الاستقرار وتخشى التغيير، وبهذا المعنى هي تشكل عنصر استقرار (فهي نادرًا ما تشارك في المواجهات الاجتماعية التي تخوضها الطبقة العمالية والفئات الاجتماعية الأقل حظًا، ولذلك من السهولة بمكان ان تجد نفسها ممزقة بين تعاطفها مع الطبقات الفقيرة وبين تماهيها مع الدولة، لأنها تعيش في كنفها بين رحاب رعايتها، وفي مصلحتها المحافظة على الأوضاع التي تجهد على التكيف معها، ولذلك فإن تراجع الانفاق وتقليص الامتيازات التي توفرها الدولة، سوف يضربها بشكل كبير، حتى تشعر بأنها أصبحت أقرب إلى الطبقات الفقيرة، فتبدأ في الارتباط بها أكثر.
إن هذه الطبقة، وان كانت محظوظة بالقياس إلى الفئات المحرومة في المجتمع، تعيش اليوم حالة من القلق، تكشف عنها بعض الكتابات والنداءات والفقرات الساخرة المنتشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حول الضرائب والرسوم وتراجع مستوى الخدمات، وربما سوف تزداد وتيرة هذا القلق حتى تتحول إلى نوع من الغضب، في ظل الغلاء الفاحش. ولا شك أن انعدام التوازن الاجتماعي الذي يتجلى بالأساس في اتساع الهوة بين الطبقات العليا للمجتمع وبين القاعدة الشعبية التي انضمت إليها مؤخرًا شرائح واسعة من الطبقة الوسطى، من شأنه أن يؤثر سلبيًا على التوازن الاجتماعي الذي هو أساس الاستقرار.
إن انتهاء مرحلة الرفاه، ومغادرة مرحلة دولة الرعاية، سوف تخلقان نوعًا من التأزم في المستقبل، لأن الاحتجاجات اقتصرت في الماضي على الجانب السياسي، إلا أنها قد تتطور في المستقبل لتشمل الجانبين الاقتصادي والاجتماعي، وعليه لا بد ان نكون مدركين لهذه المخاطر المحتملة ونستعد لها من خلال:
- التدرج في المعالجات المالية، بما لا يضر بشكل فج بالأغلبية الساحقة من المواطنين الذين لديهم الاستعداد لتحمل جزء من أعباء المرحلة القادمة، بشرط التدرج والتوازن في الإجراءات، بحيث يتحمل القادر أكثر من الاقل قدرة، ويعفى الفقير من الأعباء الاضافية، فيكفيه الفقر عبئًا، وتتحمل الطبقة الوسطى جانبًا معقولاً من العبء.
- ترشيد الإنفاق والحد من المصروفات غير الضرورية، ويجب هنا ان تضرب الدولة المثال في ذلك، حتى تكون قادرة على اقناع المواطن بشد الأحزمة.
- نشر ثقافة الترشيد على نطاق واسع، ويمكن تسخير جزء هام من البرمجة الإعلامية الرسمية لنشر هذه الثقافة على نحو واسع، ويفترض هنا أن تكون للإعلام وظيفة وطنية حيوية تواكب احتمالات الأوضاع المقبلة، وهو ما يتطلب استشرافًا للمستقبل وقراءة واعية للتحديات.
- نشر ثقافة العمل والإنتاج والإنتاجية، لأن تحسن أوضاع الاقتصاد وأوضاع الافراد يرتبطان بشكل عضوي بالقدرة على إنتاج الثروة، بكافة أشكالها، ليتحول المجتمع من حالة الاستهلاك المفتوح إلى حالة العمل والإنتاج وتحسين الإنتاجية.
* نقلا عن صحيفة الأيام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة