عدت مؤخرا للقراءة فى كتاب سيجمون فرويد الشهير (الحضارة ومنغصاتها)، فاسترعت انتباهى فقرة صغيرة عن التجربة الشيوعية للاتحاد السوفيتى
عدت مؤخرا للقراءة من جديد فى كتاب سيجمون فرويد الشهير (الحضارة ومنغصاتها)، فاسترعت انتباهى فقرة صغيرة عن التجربة الشيوعية فى الاتحاد السوفيتى، ولم أكن قد علقت عليها أهمية من قبل. كان فرويد يكتب كتابه أثناء حكم ستالين فى الثلاثينيات من القرن الماضي، وارتكب ستالين خلاله فظائع كثيرة حاول تبريرها بالقول إنها ضرورية لبناء الشيوعية. علق فرويد على ذلك بقوله ما معناه إن هذا الموقف من الشيوعيين يدل على قصور فهمهم للطبيعة الانسانية.
قلت لنفسى إن هذا على الأرجح صحيح، فاعتقاد الشيوعيين بصفة عامة، وثقتهم الشديدة فى إمكان تحقيق النظام الاجتماعى الأمثل، يتعارض مع كثير من الدوافع الانسانية الطبيعية، التى من شأنها أن تقف عثرة فى طريق ذلك. ولكن خطر لى أيضا أن هذا العيب أو النقص لا ينطبق على الشيوعيين وحدهم (بمن فيهم ماركس ولينين) بل ينطبق أيضا على كتّاب ومفكرين آخرين مشهورين (بل وعظماء) قدمّوا نظريات عامة عن العلاقات الاجتماعية والتنظيم الاجتماعي، وعوملت نظرياتهم ومازالت تعامل بتقدير كبير، رغم أنها هى أيضا قد تكون ناقصة نقصا خطيرا كمعبر عن الطبيعة الانسانية.
فلننظر مثلا إلى آدم سميث، مؤسس علم الاقتصاد، وصاحب كتاب «ثروة الأمم» (1776)، الذى زعم فيه أن المحرك الأساسى (أم هو الوحيد؟) لسلوك الانسان هو رغبته فى تحقيق مصلحته الخاصة، وأن الناس، إذ يتصرفون مدفوعين بمصلحتهم الخاصة، ينتهون بتحقيق المصلحة العامة، وكأن هناك «يدا خفية» (هكذا قال) تدفعهم إلى التصرف على هذا النحو، من أجل بلوغ هذه النهاية الممتازة. قال سميث هذا فى كتاب «ثروة الأمم»، وأخذ يؤكد عليه رغم أنه فى كتاب سابق له كان قد اعترف بأهمية «التعاطف الانسانى» كدافع للسلوك.
التقط أنصار الرأسمالية (وعدم تدخل الدولة) فكرة سميث، المتعلقة بالمصلحة الخاصة، وهللوا لها لسبب مفهوم تماما، وهو أنها تؤدى بالضرورة إلى المطالبة برفع يد الدولة عن التدخل فى الاقتصاد، طالما أن السلوك الحر للأفراد سيؤدى إلى تحقيق المصلحة العامة دائما. وظل أنصار الرأسمالية يرددون ذلك حتى الآن، ويرفضون أى تشكيك فى صحته، على الرغم من أن الحياة اليومية تقدم لنا فى كل يوم أمثلة جديدة على التعارض الممكن بين مصالح بعض الأفراد الخاصة ومصلحة المجتمع ككل (يكفى أن نتذكر مثلا أثر الاعلانات التجارية المدفوعة بدافع المصلحة الخاصة على حياتنا الاقتصادية والثقافية). ألم يكن يحق لفرويد أو لغيره أن يقول أيضا إن نظرية سميث والرأسماليين تتعارض بدورها مع الطبيعة البشرية؟
ولكن هناك أيضا أمثلة أخري، هناك من أخذوا يتغنون منذ نحو أربعين عاما بمزايا «العولمة»، وكأن تحول العالم شيئا فشيئا إلى «قرية واحدة كبيرة»، غاية محمودة ومطلوبة فهل هذا صحيح؟ ألم يكن من الممكن النهوض بالقرية الصغيرة أو المدينة الصغيرة، وإصلاح عيوبهما، دون أن يتحول العالم كله على النحو الذى نراه الآن، شيئا فشيئا إلى عالم من العلاقات المتشابكة على نطاق واسع جدا ولكن دون عمق إنساني؟
أو فلننظر لتصوير النظرية الاقتصادية الحديثة للانسان (منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر) وكأنه يتصرف دائما كرجل «رشيد» يوصف أحيانا بالانسان الاقتصادى (economic man) الاقتصادى الحديث، يتصور الانسان وكأنه عقلانى دائما، يقارن بين كل أصناف السلع المتاحة، وبين كل الأسعار، ويختار أفضلها، وبين كل المطاعم ووسائل الترفيه ويختار أنسبها له فى كل ظرف من الظروف.. الخ، ولكن الانسان نادرا ما يستطيع أن يفعل ذلك، انه محكوم بمختلف القوى التى تدفعه إلى التصرف على نحو غير رشيد، اما لقلة ما لديه من معلومات، أو بسبب عادات قوية تأصلت فى نفسه ويصعب التخلص منها، أو لكسل عن القيام بالجهد اللازم لممارسة التصرف الرشيد.. الخ.
ولكن النظرية الاقتصادية الحديثة كلها تقوم على افتراض رشادة الانسان لسبب بسيط، وهو أن الاقتصادى الحديث يطمح إلى الوصول إلى الدقة المتناهية فى صياغة نظرياته، وهى دقة لا يمكن أن تتوافر إلا بافتراض كهذا، خاصة إذا كانت الدقة المطلوبة مصوغة صياغة رياضية. إذن فمن أجل الدقة الرياضية هذه المرة، جرت التضحية بالحقيقة والحكمة.
عندما حلت الأزمة المالية بالعالم الغربي، سنة 2008 ومنه انتشرت إلى أماكن كثيرة أخرى فى العالم، لم يكن الاقتصاديون، الكبار منهم والصغار يتوقعونها، كانت معظم التنبؤات تقول بعكس ذلك، أن تسيير الأمور سيرها الطبيعى أو إلى الأحسن، فلما وقعت الواقعة، ذهل الناس إذ وجدوا أنه حتى كبار علماء الاقتصاد، الذين يتوقع منهم القدرة أكثر من غيرهم على التنبؤ الصحيح بمستقبل الاقتصاد عجزوا عن ذلك، ومن الطريف أن الملكة اليزابيث، ملكة بريطانيا الحالية، قررت (لا شك بناء على نصيحة بعض مستشاريها) أن تقوم بزيارة كلية لندن للعلوم الاقتصادية، أشهر معهد للاقتصاد فى انجلترا، فتلتقى أساتذتها وتسألهم هذا السؤال الذى يلح على الجميع: «لماذا عجزوا عن القيام بما يتوقعه الجميع منهم؟» أجاب بعض أساتذة هذا المعهد إجابة صريحة وهى «يا مولاتي، نحن ندرّس منذ فترة طويلة نظريات بعيدة عن الواقع، (قاصدا بالطبع النظريات المتسمة بالمبالغة فى الدقة الرياضية، التى تفترض فروضا واقعية، ومن بينها الرشد التام فى السلوك الاقتصادي). فما الذى يمكن أن نتوقعه أفضل من ذلك؟».
* نقلا عن الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة