لا يمكن الحديث عن وطن بإمكانه أن يحاسب أشخاصا أو مسؤولين، وهو يعاني من ميراث طائفي مقيت وفساد إداري يكاد يشترك فيه الجميع.
شعر أغلب الناس حول العالم بمرارة كبيرة وألم عميق، وهم يتابعون ما أدى به التفجير الذي حدث في مرفأ بيروت قبل أسبوع من كارثة مست كل الجوانب الحياتية للإنسان اللبناني، فتحركوا لمساندته والوقوف بجانبه والتعاطف معه.
لعل الكارثة الحقيقية تمثلت في تهرب كل قادته والمسؤولين اللبنانيين من الاعتراف بأن سياساتهم وفسادهم هما السبب الذي يقف خلف ما حدث، مع أنهم يدركون أن الجميع يعرف بأنهم جزء أساسي ورئيسي في كل الكوارث التي مرت على لبنان وليس في هذا الموقف فقط، الأمر الذي أثر على دور الدولة اللبنانية الوطني والقومي. ولبنان كما يعرفه الناس كان كياناً يشع في منطقة الشرق الأوسط بالتسامح والتعددية وبالثقافة والفن والجمال، لكنه تحول فجأة بفعل فساد قادته من سياسيين وروحانيين وحتى الزعماء التقليديين منهم إلى مجتمع يعاني التشرذم والتفتت المجتمعي.
هذا الحال السيء، أدى لأن يعبر الشعب اللبناني عن يأسه من أول خطوة دولية للوقوف إلى جانبه، وذلك بأن وقّع حوالي "40" ألف مواطن لبناني عريضة إلكترونية يطالبون فيها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي زار بيروت السبت الماضي، بعودة الانتداب الفرنسي لبلادهم، ليس من باب الحنين والرغبة في ذلك الانتداب، ولكن تعبيرا عن عدم وجود رؤية سياسية صحيحة لدى القيادة اللبنانية لإنقاذ الوطن من الأزمات التي يواجهها كل مرة.
إلى هذه اللحظة، مر أسبوع على كارثة التفجير -التي قارنها بعض المراقبين بحجم كارثة هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين- وما زال الكل يتساءل من المسؤول عما حدث؟!، بل الغريب أن نجد كل طرف يلقي اللوم على الآخر، وهذا أخطر ما يمكن أن تتعرض له أي دولة وأن يسمعه شعب في العالم. لأنه ليس سهلاً أن يتم ارتكاب جرائم بحق وطن وفي أكثر من مرة وعلى مدى سنوات، ومع كل ذلك يغيب الفاعل والمسؤول بل ويبقى "لغزاً" دون أن يظهر ولو مرة ولو بالخطأ، وهو ما لا يتفق بتاتاً مع أي منطق أو عقل.
ولقد مثلت عملية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في العام 2005، الذي كان له مواقفه الوطنية والبطولية في استعادة الدولة اللبنانية وقرارها السيادي، بداية "مواهب" اختفاء الفاعل فيها، رغم معرفة من الجميع بمرتكب الجرم الإنساني والوطني، واستهوت تلك اللعبة "المجرم المتخفي" مع كل من تحدث باسم الوطن والوطنية، إلى أن وصل الأمر بفشل الدولة في تحقيق أدنى درجة من الأمن لكل من يحاول الوقوف في وجه من اختطف الوطن، ما نتجت عنه ثورة شعبية تطالب برحيل كل النظام واستعادة الوطن بكل فئاته وطوائفه رغبة منهم في تعديل ما أفسدته السياسة الطائفية التي تعمل لصالح أجندات إقليمية.
لا يمكن الحديث عن وطن بإمكانه أن يحاسب أشخاصا أو مسؤولين وهو يعاني من ميراث طائفي مقيت وفساد إداري يكاد يشترك فيه الجميع ولا يريدون الخروج منه، لأن مصالحهم السياسية سوف تتأثر، وأن الذي يدير هذه الفساد ميليشيا تسيطر على الدولة بقوة السلاح وفق منطق "عصابات المافيا"، وتهدد بتدمير الوطن وفق مغامرات صبيانية تستقوي بالخارج ضد الوطن وأبنائه بمنطق غريب وعجيب، لا يحدث إلا في منطق الطائفية قبل الوطن.
وعليه فإن استمرار مطالبة اللبنانيين برحيل النظام السياسي ورفضهم التعامل معه وكذلك مناشدتهم للدول المانحة بعدم تسليم المساعدات إلى قادة بلادهم، يمكن اعتبارها صيحة احتجاج واضحة النبرة وعالية الصوت، ترفض ما وصل إليه حال دولتهم نتيجة لتحكم حزب الله الإرهابي وزعيمه حسن نصر الله بقراره السياسي.
لا شك أن انفجار بيروت كارثة بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى، لكنها تحمل إحساس بأن الأمر سيمثل مرحلة جديدة من التغيير يقودها الشعب اللبناني الذي بات أكثر إصرارا في استعادة وطنه بعدما يئس من قادته، يدعمه في ذلك من الخارج المجتمع الدولي والدول العربية لانتشاله.
لكن يبقى الأهم من تلك الوقفة الدولية الإرادة الشعبية الوطنية التي تشكلت من الكوارث والأزمات، فهي إعلانٌ عن قطع نصف الطريق نحو استعادة الدولة اللبنانية التي أحزنت محبيها في العالم، ويبقى النصف الآخر كامنا في سعة الأفق وعمق البصيرة السياسية، كيلا يتم خداعهم مرة أخرى من محترفي التلاعب على القرارات والالتفاف على مشاعرهم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة