ذكرى الثورة الجزائرية.. استشعار لخطر "فراغ القيم" بين الأجيال
"المجد والخلود لشهدائنا الأبرار"، عبارة دارجة رسمية وشعبية منتشرة بالجزائر، بمناسبة أو بدونها، لكنها الأكثر تداولا في عيد الثورة.
وأمس الإثنين، احتفلت الجزائر بمرور 67 عاماً على اندلاع الثورة ضد الاحتلال الفرنسي (1830 – 1962)، والتي اندلعت ليلة الفاتح من نوفمبر/تشرين الثاني 1954، كانت شرارتها الأولى بجبال الأوراس شرقي الجزائر، قبل أن يمتد لهيبها إلى عموم البلاد.
- مجزرة 1961.. جرح جزائري نازف يطيل الطريق إلى فرنسا
- ماكرون يؤكد رغبة بلاده بـ"مصالحة الذاكرة" مع الجزائر
ثورة صُنفت بالحسابات التاريخية ضمن "أعظم ثورات" القرن العشرين، دامت 7 أعوام ونصف العام ضد أعتى قوة استعمارية في تلك الحقبة، كان ثمنها باهظاً وهو مليون ونصف المليون شهيد.
غير أن الواضح من خلال النقاشات المطروحة في الساحة الجزائرية، أن التاريخ الثوري للجزائر لم يعد مقتصرا فحسب على جهود الأبحاث أو حسابات العلاقات مع مستعمِر الأمس، بل دفع المهتمون إلى طرح نقاش مليء بالهواجس وتساؤلات عن ماذا بقي من قيم ثورة الجزائر لدى الأجيال الجديدة وحتى عند الطبقة الحاكمة.
محرقة استعمارية
في رسالة إلى الجزائريين بمناسبة عيد الثورة نشرتها الرئاسة الجزائرية وحصلت "العين الإخبارية" على نسخة منها، قال الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إن "الله تعالى أنعم على الجزائر بأن تردد صدى كفاحها المسلح المرير ضد الاستعمار الاستيطاني في أصقاع الدنيا، عندما كانت قوافل شهدائنا الأمجاد والمسلحين بإيمان النصر، وإصرارهم على إعلاء الحق، تسحق ما حشدته فرنسا الاستعمارية من إرهاب بقوة السلاح، وترويع بالإبادة وتنكيل بالتعذيب وبأبشع جرائم الأرض المحروقة في تاريخ البشرية الحديث"
وتابع قائلا: "فلقد كان سلاح الإيمان بالنصر، والإصرار على إعلاء الحق، بعدالة القضية أقوى من جيش استعماري مدجج، مهتز العقيدة، مدفوع إلى جحيم العدوان، على شعب حر ومصمم على البقاء حرا".
قيم تائهة بين الأجيال
تبون في رسالته، لم يضع فقط أصبعه على جراح الماضي التي قال إنها "لم تندمل"، بل بسط يده على إشكالية أخرى بالاتجاه الآخر، كانت إلى وقت قريب هاجساً لمن تبقى من قدماء المحاربين والمؤرخين والباحثين، وهي القيم الثورية المتبقية بين أجيال الماضي والحاضر، عندما دعا لأن تكون "مصدر إلهام".
وأكد الرئيس الجزائري أن "نوفمبر/تشرين الثاني المعين الذي لا ينضب، ذخر الأمة، ومناط فخر الشعب وعزته، أرفع من أن ينحصر الاحتفاء به في مظاهر الرتابة المناسباتية الباهتة، فتضحيات الشهداء والمجاهدين، والمآسي والمعاناة التي عانى منها الشعب تحت هيمنة الاستعمار الغاشم، ينبغي أن تكون مصدر إلهام، لإحاطة إحياء ذكرى نوفمبر/تشرين الثاني الخالدة، بما يرقى لعظمة ملحمة ثورة التحرير المباركة".
ويبدو من رسالة تبون أن السلطات الجزائرية استشعرت "خطر فراغ القيم الثورية بين الأجيال"، عندما شدد إلى ضرورة "تسخير الإمكانيات الموضوعة تحت تصرف المؤسسات والهيئات المعنية، وتوجيهها نحو ترقية وتثمين رصيدنا التاريخي المعاصر، بأشكال وأساليب حاملة لعناصر الإقناع، ومستقطبة للأجيال الجديدة".
كما أهاب "بالمؤسسات التي يقع على عاتقها الاهتمام بتاريخ الحركة الوطنية وثورة التحرير للمبادرة بوضع تصورات وبرامج محددة المواضيع والآجال، وللانتقال بأسرع ما يمكن إلى حفظ وتوثيق المادة التاريخية، بالاعتماد على الرقمنة، وتوفير الشروط الملائمة للباحثين والمبدعين في شتى الفنون لإبراز حقيقة النضالات القاسية والتضحيات الجسيمة من خلال أعمال فنية راقية، وإبداعات تسمو إلى تضحيات، عانقت عنان السماء في نبل الأهداف والمقاصد الإنسانية العظيمة لثورة نوفمبر/تشرين الثاني 1954".
حقائق الماضي والحاضر
الدكتور عبدالرحمن بن شريط، أستاذ الفلسفة السياسية بجامعة الجزائر، اعتبر أن هذه التساؤلات "تؤكد وجود إشكال حقيقي وهذا النوع من الأسئلة من المفروض لا يطرح بالمقارنة مع ما عرفته الثورة التحريرية من نضال وتضحيات وتاريخ طويل من الدماء والآلام".
وأوضح في حديث مع "العين الإخبارية" "أن طرح هذا السؤال يعني وجود خلل وشعور بتأنيب الضمير بشكل كبير جدا"، وطرح في السياق تساؤلات أخرى عندما قال: "هل قمنا بواجبنا بشكل مناسب؟ وهل تمكنا من دعمه وتكريسه واستثماره ونقل مشاعره وقيمه إلى الأجيال الجديدة؟ وهل تمكنا من احترام هذه العهود؟".
واستطرد قائلا: "عندما قمنا بعملية تقييم الكل يُجمع على أننا مقصرون بشكل كبير جدا، وله أسبابه أولها التاريخية وهي الأساسية، لا نستطيع كتابة التاريخ لكن من حقنا أن ندرس هذا التاريخ من حيث القيم والمبادئ والمواثيق التي انطلق منها واستند عليها".
واعتبر أن النقاش المطروح بتساؤلاته "تعتبر محرجة ويضعنا وجها لوجه أمام حقيقتنا، وأعتقد أن هناك شعور ما بعد الاستقلال كان مخيباً للآمال إذا ما قارناه بكم التضحيات والدماء والطموحات، كان من المفروض أن لا تكون مخرجات الثورة بعد الاستقلال بهذه الضحالة والتأزمات الاجتماعية والاقتصادية وخاصة الفكرية والثقافية، في جانب كبير منها تعبر عن انتكاسة وعن ردة على قيم أول نوفمبر/تشرين الثاني".
الاختراق الاستعماري
كما اعتبر المحلل السياسي أن "البحث في التاريخ يدفعنا للاعتراف بوجود اختراقات لفرنسا ووجود تحضير لوجودها ما بعد الاستقلال، ويمكن القول إن فرنسا التي خسرت الجزائر وفقدتها ميدانياً لكنها تمكنت من تلغيم الاستقلال ورهنه والحفاظ على وجود ليس مصالحها فقط، بل تركت بذرتها التي تمكنت من إحداث ما عرفته الجزائر من انتكاسات سياسية واقتصادية واجتماعية".
ولفت إلى أنه على الجزائر "إعادة تقييم ما بعد الاستقلال ولا نستطيع أن نصل إلى نتائج عملية إلا إذا تمكنا من نقرأ أنفسنا قراءة صحيحة، ونقف على العقبات ونواجهها بكل صراحة ونتخذ الإجراءات الصارمة لكي نعيد الجزائر إلى نفسها وإلى تاريخها وقيمها وحضارتها، وأن تقضي على كل مخلفات الاستعمار بعاداته وقيمه واختراقاته، وللأسف لازلنا لم نتمكن من ذلك".
إخفاق ما بعد الاستقلال
كذلك أوضح الدكتور عامر رخيلة الباحث والمؤرخ الجزائري في حديث مع "العين الإخبارية" أن إشكالية ماذا تبقى من قيم ومبادئ الثورة الجزائرية يُطرح على مستويين وهما الرسمي والشعبي.
واعتبر أنه على المستوى الشعبي "هناك تباين، وهناك فئات كبيرة من المجتمع متشبعة بقيم نوفمبر/تشرين الثاني وتعرف دوره في استرجاع السيادة الوطنية وإعادة بعث الجزائر التي ألحقتها فرنسا بقوة قانونها، وليس بقوة الدين ولا الحضارة ولا الجغرافيا".
ويرى المؤرخ بأن بلاده "لم تنجح من خلال الفعاليات الثقافية والتاريخية في إيصال رسالة نوفمبر/تشرين الثاني للأجيال المتلاحقة، ونحن أمام ثالث جيل منذ استرجاع الجزائر لاستقلالها، ولم تصل الرسالة كما ينبغي، وهي مسؤولية مشتركة بين التعليم والأسرة والذين نصبوا أنفسهم أوصياء على التاريخ وغيرها من الاعتبارات".
أما على المستوى الرسمي، فيرى الدكتور رخيلة أن الثورة الجزائرية أصبحت "مجرد خطاب، والقيادة السياسية منذ الاستقلال كانت مجبرة على التمسك بهذا الخطاب التاريخي والثوري لأنها تطرح لها إمكانية عدم وجود شرعية أخرى، والمقصود هنا بالشرعية التاريخية".
واستطرد قائلا: "الشرعية التاريخية بكل صراحة لا تنتج قيماً مكملة لقيم نوفمبر/تشرين الثاني، ولا تعزز مخزون أول نوفمبر/تشرين الثاني، ولم تول العناية الكافية من حيث القرارات وتعاملاتها ومن حيث إشرافها على المنظومة التربوية".
تفاؤل بالمستقبل
في مقابل ذلك، نوه المحلل السياسي الدكتور عبدالرحمن بن شريط، إلى وجود ما أسماه "بعض النسمات وحالات الصحوة ونقرأ الأزمة مع فرنسا قراءة إيجابية خاصة بعدما عشنا فترة من السيطرة والاختراق الفرنسي الكبير إبان الحكم السابق، والآن بدأنا نستشعر بعض حالات الاستفاقة والرجوع إلى الوعي وهذا ما يقودنا إلى احتمال التفاؤل بمستقبل تعود فيه الجزائر إلى ذاتها وقيمها".
وشاطره في الرأي الباحث والمؤرخ الدكتور عامر رخيلة عندما أشار إلى أنه "منذ تولي الرئيس تبون مقاليد الحكم هناك خطاب متميز بالنسبة للثورة الجزائرية".
لكنه أعرب عن تمنيه بأن "يكون خطاباً دائما ولا يكون خطاباً أملته التوترات التي عرفتها العلاقات الجزائرية الفرنسية، ويجب أن يكون خطاب الرئيس تبون يندرج ضمن قراءة تاريخية متواصلة في إطار وضع اللبنات الأولى للمدرسة التاريخية الجزائرية".