الاعتذار «الصحوي» حتى لو كان متأخرا.. موقف شجاع، ومطلوب من رموز «صحوية» أخرى
قرأت في كتاب نال شهرة واسعة، وأنعم على صاحبه بثروة مالية كبيرة، تشجيعاً على التفاؤل وجلب السعادة والهدوء وانشراح الصدر!! وطرد الهم والغم والقلق والقنوط، وقد جمع الكاتب في الكتاب أمثلة شاردة، وقصصاً معبرة، وأشعاراً مؤثرة، تدعونا إلى عدم الحزن!! وإلى أن نحيا حياة سعيدة!!
الاعتذار «الصحوي» حتى لو كان متأخراً.. موقف شجاع، ومطلوب من رموز «صحوية» أخرى للانتصار على أنفسهم، التي كلفت ذات يوم الدين ما لا يطاق، وتغوّلت على الدين تأويلاً وتسييساً، وتركت ممارستهم آثاراً فاجعة في المجتمع
ومما لفت انتباهي أثناء قراءة الكتاب ما أورده الكاتب عن الحسن البصري قوله: «المسلم لنفسه أشد محاسبة، من الشريك لشريكه». وقوله عن أحد السلف: «لي ذنب من أربعين سنة، وأنا أسأل الله أن يغفره لي، ولا زلت ألح في طلب المغفرة».
ويذكر صاحب الكتاب، وهو أحد أبرز رموز ما يسمى «بالصحوة» الإسلامية، أن أحد مفكري الغرب لديه ملف كبير يحتفظ به في درج مكتبه، مكتوب عليه «حماقات ارتكبتها»، يكتب فيه كل سقطات وتوافه وعثرات يزاولها في يومه وليلته، ليتخلص منها.
ومما يشرح الصدر ويزيح سحب الغم أن صاحب الكتاب قد فتح درج مكتبه، وفتح ملف «سقطات» الصحوة ورموزها من حماقات وآثام.. واعتذر عما فيه للناس، وسأل الله المغفرة.
قبلنا الاعتذار، وقدّرنا هذه «الوقفة» الاعتذارية الصحوية، بنبرتها وأسرارها وتوقيتها وشجاعتها، وردود الأفعال تجاهها.
لكن قبل أن ننتظر ما بعدها، من حقنا أن نسائل «الصحوة» وجماعاتها، ونحاسب حوارييها وبياناتهم التي أدارت الرؤوس، وخطبهم التي هزت المنابر، ودعوتهم «لشباب الأمة»: «انفروا للجهاد في سبيل الله، وحرروا بلاد المسلمين من الطغاة الكفار».
من حقنا أن نسأل عن دماء هؤلاء الفتية الذين غررت بهم هذه «الصحوات» وعن بلاد دُمرت وملايين هُجرت.. وإلقاء الناس إلى التهلكة، والتحريض على الفتنة.
كلفت هذه «الصحوات» الدين بما لا يطاق، وسيّسته واستعارت عصمته، لتنازع بها الآخرين على السلطة، وحولت المزاج العربي والإسلامي العام من الخوف على الدين إلى الخوف منه.
استخدم «الإحيائيون أو الصحويون» في الصراع الغربي ضد الشيوعية، وفي الحرب الثقافية الباردة، واتجهوا للجهاد العالمي بعد أفغانستان، وجهاد العالم العربي، فضلاً عن «حرمة الجهاد بالداخل الوطني».
حوّل قادة ورموز «الصحوة» الدعوات والبيانات للعنف العبثي، لتتجسد في تنظيمات ومليشيات مسلحة، وبناء مرجعية وحيدة في الدين والفتوى والإرشاد العام، وتكفير الناس، واستحلال دمائهم، ووضع المسلمين في عداء مستدام مع العالم.
أدخلت جماعات «الصحوة» الإسلام في مأزق الانقسام الديني، ومأزق مصارعة الدولة الوطنية من خلال العنف، وتسببت مفاهيم أهل «الصحوة» التي مارسها فقهاء القتل والتكفير في انشقاقات اجتماعية ودينية عميقة، ونزعت السكينة من نفوس جيل بأسره.
لم تصلح هذه «الصحوات» ممارسات مسلمين، ولم تجدد خطاباً دينياً، ولم تضف إلى الأمة إبداعاً أو إصلاحاً في اقتصاد أو تعليم أو علوم أو فنون أو خلافه، وإنما اشتغلت وشغلت الناس في «صناعة الفتاوى السياسية»، وأسست للعداوة والبغضاء في المجتمعات، وصنفت المسلمين أصنافاً، فمنهم المجاهد والقاعد والآثم، وسخرت من المثقف والمفكر ومن فقه الواقع، وافترضت أنها وحدها تمتلك الحقيقة، ونزعت حتى شرعية الوجود عن المخالفين لها، وعرّضت الأوطان للضياع والتقسيم.
خسرت الأمة العربية مرحلة مهمة من تاريخها، وهي مرحلة كانت وما زالت عامرة بالدم والقتل والتدمير، وظلت «الصحوات والإحيائيون»، يخاطبون المناهج المدرسية والإعلام التقليدي والجديد، وتشكيل بنية أساسية لنشاط أجيال من شباب تائه قلق له امتداداته في أنحاء كثيرة من العالم، لا تعرف الاعتدال ولا الوسطية، ولا جوهر الرحمة والإنسانية والخير العام والعدل في الإسلام.
الاعتذار «الصحوي» حتى لو كان متأخراً.. موقف شجاع، ومطلوب من رموز «صحوية» أخرى للانتصار على أنفسهم، التي كلفت ذات يوم الدين ما لا يطاق، وتغوّلت على الدين تأويلاً وتسييساً، وتركت ممارستهم آثاراً فاجعة في المجتمع، اضطراباً واحتراباً، ودرءاً للمصالح، وجلباً للمفاسد، وجعلت الدين دعوة للعنف ومصدراً للكراهية وطاقة تدمير، بدلاً من أن يكون طاقة إيجابية في حياة الناس.. تحييهم ولا تقتلهم.
نقلاً عن "الخليج"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة