التقارب العربي الصيني.. مؤشرات ودوافع

ثمة عوامل متعددة دفعت كلا من الجانبين الصيني والعربي إلى التقارب، وتنمية العلاقات الاقتصادية بينهما.
تشهد العلاقات الصينية العربية، منذ بداية القرن الحادي والعشرين، تطورات تُعد توطئة لعلاقات أكثر عمقًا وتشعبًا بين الجانبين، فمنذ عام 2004، تأسس منتدى التعاون "الصيني – العربي" كإطار للتعاون الجماعي متعدد المجالات بينهما، بل إن الصين أقامت علاقات الشراكة الاستراتيجية، أو علاقات التعاون الاستراتيجي، مع كثير من الدول العربية؛ هذا فضلًا عن آلية للحوار الاستراتيجي مع مجلس التعاون لدول الخليج العربي، ودول عربية أخرى.
ولعل تطور العلاقات بهذا الشكل، ومدى نموها المتواصل، كان قد تبدى بصورة واضحة في قمة "مبادرة طريق الحرير الجديدة"، التي عُقدت مؤخرًا في بكين؛ خاصة أن عددًا كبيرًا من الدول العربية كانت قد شاركت في هذه القمة. هذا بالإضافة إلى أن منطقة الخليج العربي، ومصر وعدة دول عربية أخرى، تعد شريكًا أساسيًا في بناء الحزام والطريق الصيني العالمي.
العلاقات العربية الصينية.. مؤشرات التقارب
ثمة عوامل متعددة، دفعت كلا من الجانبين الصيني والعربي إلى التقارب، وتنمية العلاقات بينهما، حيث يشير الواقع إلى أن الصين تحتل الآن موقعًا محوريًا في الاقتصاد العالمي؛ إذ، تحتل المركز الثاني عالميًا من حيث الناتج المحلي الإجمالي، والأول إذا تم تقييمه بتعادل القوة الشرائية للدولار، كما أنها تحتل المركز الأول في التجارة العالمية، وثالث دولة عالميًا بعد الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا في ميزان القوى الاستراتيجية العالمية.
أما الدول العربية، فإضافة إلى ما تتميز به المنطقة العربية من ميزات جغرافية وديموغرافية واستراتيجية، فهي تعتبر أكبر مصدر للنفط الخام إلى الصين، ومن أهم الشركاء التجاريين لها، خاصة وأن منطقة الخليج العربي تمثل محورًا رئيسًا من محاور الطاقة والاقتصاد في العالم.
ولكن، إضافة إلى ذلك، فإن عددًا من العوامل قد دفعت الجانبين إلى التقارب وتنمية العلاقات بينهما، أهمها الصعود السريع للصين منذ عام 1978؛ حيث بدأت سياسة الإصلاح والانفتاح التي حققت المعجزة، وتحولت معها الصين من دولة عاشت في فوضى "الثورة الثقافية"، إلى دولة حديثة متقدمة اقتصاديًا وتجاريًا وتكنولوجيًا، حتى وصلت إلى أن تكون الدولة الثانية على مستوى العالم، من حيث حجم الاقتصاد؛ وسط توقعات بأن تكون الأولى بحلول عام 2030.
من جانب آخر، هناك التغيرات الحاصلة في السياسة الدولية، من الصناعات التقليدية إلى صناعة المعلومات والمعرفة، والتكنولوجيا المتقدمة، وبروز دور الطاقة في الاقتصاد العالمي؛ هذا، فضلًا عن بروز ظاهرة العولمة نتيجة التداخل والترابط العالمي. ومن هنا استردت المنطقة العربية أهميتها؛ ليس من منظور النفط والغاز فقط، ولكن أيضًا من حيث الموقع المتميز بالنسبة لطرق التجارة الدولية.
من جانب آخر، هناك الحقيقة التاريخية التي تشير إلى ما تعرض له الجانبان العربي والصيني من معاناة متشابهة من طرف ثالث، هو الغرب في حالة العرب، واليابان في حالة الصين؛ وهو ما جعل التقارب بينهما يحمل أسبابًا عاطفية وتاريخية، وقد انعكس ذلك في الدعم العربي للصين في المحافل الدولية في مواجهة الغرب، مثل الدعم العربي للصين من أجل استعادة مقعدها الشرعي في الأمم المتحدة، وكذا دعم الصين للدول العربية في قضاياها العادلة، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.
هذه العوامل وغيرها، تمثل دائرة الارتكاز في التقارب الصيني العربي، والمحرك الأساس في نمو العلاقات بين الجانبين؛ إذ أن الخط العام للعلاقات بين الجانبين، كان قد تجسد، خلال العقود الستة الماضية، في التوافق العام حول قضايا العلاقات الدولية بما في ذلك قضايا التنمية، وإصلاح الأمم المتحدة والنظام الاقتصادي العالمي.
غير أن تركيز الاهتمام من الجانبين على الأبعاد الاقتصادية والتجارية في دائرة العلاقات بينهما، ساهم في نمو هذه الأبعاد، فالصين تعتبر ثاني شريك تجاري للدول العربية، حيث بلغ حجم التبادل التجاري الصيني العربي عام 2017 مائتي مليار دولار، ووصل حجم الاستثمار الصيني المباشر في الدول العربية في العام نفسه إلى مليار ومائتين وستين مليون دولار.
ويشمل هذا التعاون مجالات الفضاء والطاقة، وبخاصة مجال الكهرباء ومشروعات البني التحتية في العديد من البلدان العربية؛ ومنها ميناء خليفة بالإمارات العربية المتحدة، والسكك الحديدية وشركة الألياف الزجاجية في مصر، وفي مجال الأقمار الاصطناعية تم إطلاق أول قمر صناعي جزائري للاتصالات.
إضافة إلى أن هناك الكثير من المصالح والقواسم المشتركة الصينية العربية، خصوصًا مع دخول بعض الدول العربية، وفي مقدمتها مصر ودول الخليج العربي، في مجال الصناعات التحويلية والخدمات اللوجيستية.
التقارب العربي الصيني.. فرص وتحديات
منذ أكثر من ثلاث سنوات، وخلال زيارة الرئيس الصيني، شي جين بينغ، لمقر جامعة الدول العربية بالقاهرة، في يناير 2016، تم الإعلان عن أول وثيقة خاصة بالتوجهات الصينية تجاه الدول العربية، وقد أكدت الوثيقة على التزام الصين بتطوير علاقاتها مع الدول العربية على أساس خمسة مبادئ، أهمها: الاحترام المتبادل للسيادة ووحدة الأراضي، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية؛ فضلًا عن إعادة التأكيد على موقف الصين الداعم لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة على حدود عام 1967.
ومن خلال القراءة التحليلية لمحتوى الوثيقة، والأوضاع التي تشهدها الدول العربية في الفترة الراهنة، وواقع السياسة الدولية، ومؤشرات الاقتصاد العالمي، يمكن القول إن العلاقات الصينية العربية ستواصل تطورها في المستقبل المنظور، وخاصة في الجانب الاقتصادي والتجاري.
يؤكد ذلك أطروحات الصين بخصوص آليات العمل المشترك، والتعاون المشترك، مثل منتدى التعاون "الصيني – العربي"، وبرامجه المتعددة، ودوراته المستمرة كل عامين، فضلًا عن الاتفاقيات الثنائية مع عدد من الدول العربية؛ وهي العوامل التي ساهمت في مزيد من التقارب الصيني العربي لوجود مصالح وتحديات مشتركة.
ومع طرح الرئيس الصيني مبادرة "الحزام والطريق" منذ عام 2013، بمكونيها البري (الحزام الاقتصادي لطريق الحرير)، والبحري (طريق الحرير الجديد للقرن الحادي والعشرين)، تبدى بوضوح إمكانية استفادة الدول العربية من هذه المبادرة المهمة، باعتبار أن المنطقة العربية إحدى المناطق المهمة على مساريها البري والبحري.
ويؤكد ذلك أن المبادرة تنطوي على أبعاد تنموية مهمة عبر مشروعات تنمية البني التحتية، وتوفير التمويل اللازم لهذه المشروعات.
ويمكن ملاحظة أن الاستثمار في البني التحتية، في سياق هذه المبادرة، يُساهم في خلق فرص عمل جديدة؛ ومن ثم تخفيض معدل البطالة، ومع أهمية النموذج الصيني في التنمية، إلا أن المبادرة تؤكد على احترام حق كل دولة في تحديد مسارها التنموي الخاص بها، ويكفي أن نشير إلى أن حجم الاستثمار الصيني المباشر، في الدول التي تقع على مسار المبادرة، في عام 2016، كان قد وصل إلى حوالي 14.5 مليار دولار.
أضف إلى ذلك، أن المبادرة تأتي من دولة كبرى، تتوجه إلى أن تصبح قوة عظمى، ذات اقتصاد قوي؛ الأمر الذي يحررها من المخاوف التي ارتبطت بالكثير من المبادرات التي أعلنتها بعض الدول الغربية ففي مقابل الاستفادة من القدرات الاقتصادية للدول الأخرى، تقدم الصين مساعدات اقتصادية ملموسة، وتلغي بعض ديون الدول التي تفتقد المقدرة الاقتصادية، كما تلغي التعريفة الجمركية على أنواع كثيرة من المنتجات المُصدرة؛ وبالتالي، فهي تسعى إلى ترسيخ قيم المنفعة المتبادلة والتنمية المشتركة، وهي العوامل التي تساهم في تفعيل وتقوية التقارب العربي الصيني؛ خصوصًا مع التغير الحاصل في الرؤية الصينية، إلى بناء صيغة من الشراكة الاستراتيجية، بدلًا من اعتبار الدول التي تتعامل معها مجرد سوق رائجة لتصريف منتجاتها.
في هذا الإطار، نجد أن التقارب العربي الصيني يحقق مصلحة استراتيجية لكلا الطرفين؛ فالدول العربية يمكنها تحقيق فوائد استراتيجية من توثيق علاقاتها مع الصين، اقتصاديًا وسياسيًا؛ خاصة أن علاقات عربية صينية أعمق سوف تُعظم من مكاسب الدول العربية في علاقاتها مع القوى الدولية الأخرى؛ إضافة إلى إمكانية تنوع العلاقات العربية مع هذه القوى، خاصة القوى الغربية. ومن ثم فمن الأهمية توثيق العلاقات العربية الصينية على المستويين الثنائي والجماعي، وربط هذه العلاقات بمصالح لا تتأثر بعوامل خارجية، خاصة المصالح الاقتصادية والتجارية.
إذ أن الرصيد الكبير الذي تراكم للعلاقات الصينية العربية، خلال أكثر من ستين عامًا مضت، يمكن أن يكون قاعدة انطلاق مهمة لعلاقات أكثر قوة وتنوعًا بين الجانبين في المستقبل، خاصة أن كليهما ينطلق من رؤية مفادها إن "السلام والتنمية" هما أيقونة العصر، وأن حجم المصالح المشتركة بينهما يتنامى بشكل كبير.