العلاقات الروسية العربية.. التحولات السياسية والمصالح المشتركة
لم تكن المصالح الاقتصادية هي السبب الوحيد في التغير الذي طال السياسة الخارجية الروسية تجاه المنطقة العربية.
بعد ما يقارب عقدين من الزمن، منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، تمكنت روسيا من إعادة صياغة سياساتها الخارجية تجاه المنطقة العربية، وإعادة ترتيب أولوياتها بشكل يتناسب مع المصالح والاهتمامات العربية، حتى يبدو أن روسيا قد غيرت تماماً من أسس وملامح السياسات التي كان يتبناها الاتحاد السوفيتي سابقاً.
فالاعتبارات الأيديولوجية التي كانت نقطة الارتكاز في العلاقات السوفيتية العربية بين عشرينيات القرن العشرين الماضي وتسعينياته اختلفت بل اختفت تماماً، ففي حين شكلت العوامل الأيديولوجية، وتصدير أفكار "الثورة البلشفية"، والتنافس مع الولايات المتحدة الأمريكية، جوهر مصالح الاتحاد السوفيتي خلال سنوات الحرب الباردة، أخذت روسيا، بعد هذه الحقبة تتوجه بوتيرة متزايدة نحو المصالح الاقتصادية، بديلاً عن الأيديولوجية والخلفيات السياسية السابقة، ومن ثم شكلت هذه التحولات جوهر السياسة الخارجية الروسية، وتوجهاتها نحو المنطقة العربية.
فمنذ مطلع عام 2005، تصاعد اهتمام روسيا بشكل ملحوظ بالمنطقة، والشرق الأوسط عموماً، وهو الاهتمام الذي تم تتويجه بزيارة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، للمنطقة عام 2007، التي اعتبرت البداية في تحسين العلاقات الروسية مع دول المنطقة.
والملاحظ، أن مثل هذا التغير قد أسهم ليس فقط في إعادة صياغة العلاقات الروسية مع كثير من الدول العربية بل أيضاَ في تنامي هذه العلاقات، فهي ترتبط بعلاقات مع أكثر من عاصمة عربية، منها القاهرة والجزائر، والرياض بعد زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى موسكو. هذا، فضلاً عن اقترابها من إشكاليات الساحة الليبية وأطرافها؛ ناهيك عن وجودها على الساحة السورية وملفاتها المتشابكة والمعقدة.
التحولات السياسية الروسية
لم تكن المصالح الاقتصادية هي السبب الوحيد في التغير الذي طال السياسة الخارجية الروسية تجاه المنطقة العربية، بل يأتي ضمن دوافع هذا التغير الموقع المهم لهذه المنطقة بالنسبة إلى روسيا.
فأهمية المنطقة العربية، وجوارها الجغرافي الشرق أوسطي، من المنظور الاستراتيجي، تكمن في موقعها الجغرافي؛ فهي ملتقى قارات العالم القديم، وتشرف على أهم البحار العالمية، فضلاً عن تحكمها في أهم الممرات المائية لطرق التجارة الدولية.
هذا، فضلاً عن أن استقرار المنطقة، من المنظور الروسي، يضمن استقرار حدودها الجنوبية؛ بل وهذا هو الأهم، يساعدها في فك العزلة الدولية التي فُرضت عليها بعد الأزمة الأوكرانية، ويُمكنها من تقديم أوراق اعتمادها كقوة فاعلة وقادرة على المساهمة في حل الأزمات الأكثر تعقيداً.
أضف إلى ذلك، ما تتمتع به المنطقة العربية من أهمية جيوسياسية، تتمثل في المخزونات التي لديها من الطاقة؛ تلك التي تقدر بما يفوق 40% من الاحتياطي العالمي من النفط، و39% من الاحتياطي العالمي من الغاز؛ هذا بالطبع إضافة إلى ما تتمتع به المنطقة من كتلة سكانية ليست بالقليلة، وبما أن روسيا تشغل الحيز الأكبر من منطقة "أوراسيا"، فإن المنطقة العربية، وجوارها الشرق أوسطي، تمثل بالنسبة إليها الفاصل الجغرافي بينها وبين المياه الدافئة.
هذه العوامل، وغيرها، أسهمت في التغير الحاصل في السياسة الخارجية الروسية؛ فبعد أعوام التسعينيات، التي مثلت فترة شبه جامدة في العلاقات الروسية العربية، بسبب انشغال موسكو في ترتيب أوضاعها الداخلية، عادت المنطقة العربية إلى الأولويات السياسية الروسية، بدءاً من منتصف العقد الأول للقرن الحادي والعشرين الحالي.
ورغم الدخول الروسي على خط الأزمة السورية، كـ"طرف فاعل" في هذه الأزمة، وما تسبب فيه من اختلافات مع الدول العربية المعنية بالملف السوري، إلا أن الدبلوماسية الروسية استطاعت التقليل من هذه الاختلافات، عبر مجالات للتعاون تهم الطرفين؛ في مقدمتها تصدير الطاقة، خاصة أن تلك الفترة كانت قد شهدت انخفاضاً حمل الروس والعرب على البحث عن حلول للمشكلة.
أيضاً، لم تُغير روسيا مواقفها من القضايا العربية الرئيسة، مثل القضية الفلسطينية؛ حيث ظلت هذه المواقف على حالها من الاعتدال والتوازن وتأييد الحق العربي. وهنا، اعتمدت روسيا على كونها عضو الرباعية الدولية المعنية بالتسوية السلمية في الشرق الأوسط، وعضو دائم في مجلس الأمن؛ هذا، فضلاً عن أنها وسيط معتدل من وجهة النظر العربية.
ولم تكتف الدبلوماسية الروسية، بإبراز هذه التحولات في سياساتها الخارجية، ولكن اعتمدت أسلوب المصالح المشتركة، في توجهاتها نحو المنطقة العربية، والشرق الأوسط عموماً.
المصالح الاقتصادية المشتركة
خلال الجلسة الافتتاحية لمعرض "أرابيا إكسبو"، الذي انطلقت فعالياته في موسكو خلال أبريل/نيسان الماضي، وفي معرض حديثه عن أهمية التعاون العربي الروسي اقتصادياً، كشف وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، عن تنفيذ الشركات الروسية والعربية نحو 400 مشروع استثماري، بقيمة 40 مليار دولار أمريكي؛ مؤكداً أن التبادل التجاري بين روسيا والدول العربية كان قد شهد نمواً، خلال العام الماضي 2018، يصل إلى نحو 22 مليار دولار، أي تزيد بنسبة 8% عن العام الذي سبقه؛ ومشيراً إلى أن هناك مشروعات مشتركة ضخمة، بين روسيا والعرب، تُنفذ حالياً أبرزها المحطة الكهروذرية في مصر.
ولم يكد يمر أسبوع واحد، حتى انعقدت الجلسة الخامسة لمنتدى التعاون الروسي العربي، في موسكو 16 أبريل/نيسان الماضي، بحضور 14 وزير دولة يمثلون الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية، وانعقدت الجلسة بحضور كل من الأمين العام للجامعة، أحمد أبو الغيط، ووزير الخارجية الروسي، لافروف، الذي أكد في خلال حديثه في المنتدى "نحن نهدف من تنمية علاقاتنا مع الأصدقاء العرب إلى وضع الحلول المناسبة للعديد من النزاعات بالطرق والأساليب السياسية والدبلوماسية، وعلى أساس القانون الدولي".
وكما يبدو، فقد مثلت جلسة المنتدى هذه دلالة واضحة على التنامي في العلاقات الروسية العربية، حيث أصبح المنتدى يشكل آلية فعالة لتوسيع وتقوية هذه العلاقات؛ والأهم، أنه أصبح يمثل منصة مفيدة للحوار حول القضايا العاجلة والمهمة، من خلال مصادقة المجتمعون على الخطة العملية، للفترة الممتدة بين عامي 2019-2021 التي تتضمن القضايا المتفق عليها خلال أعمال المنتدى، ووضعها موضع التطبيق.
في هذا الإطار، تنمو وتتزايد العلاقات الروسية العربية، عبر التحولات في السياسة الخارجية الروسية، وعبر المصالح الاقتصادية المشتركة؛ ويكفي أن نلاحظ كيف ازداد التبادل التجاري بين الطرفين من 5.5 مليار دولار عام 2006، إلى 22 مليار دولار عام 2018.
وفي هذا الإطار، أيضاً، تمكنت روسيا من عقد العديد من الصفقات العسكرية مع العديد من الدول العربية، ورغم أهمية البعد المادي لهذه الصفقات، بالنسبة إلى الاقتصاد الروسي، إلا أن أهميتها الأكبر تتجاوز ذلك إلى التقارب مع الأطراف العربية، في مجالات أخرى، مثل التعاون التقني والاستثماري.
صحيح أن التعاون والتنسيق في مجال الطاقة يأتي ضمن الأولويات المهمة في السياسة الروسية تجاه المنطقة العربية، وحوله تتمحور الدبلوماسية والتقارب الروسي مع الدول العربية، لاسيما دول الخليج العربي؛ إلا أنه يبقى من الصحيح، أيضاً، أن المنطقة العربية تمثل سوقاً مهمة ذات قوى استيعابية للصادرات من السلع الاستراتيجية والمُعمرة؛ هذا بالإضافة، قطعاً، إلى عشرات المشروعات التي تم الاتفاق عليها والتعاقد بشأنها بين الطرفين، والتي تقدر قيمتها بمليارات الدولارات.
هكذا، تعمقت التجربة الروسية لجهة فهم الرؤى السياسية للدول العربية، وكيفية التعاطي معها، عبر التحولات التي أجرتها في سياساتها الخارجية، والتعاون والتنسيق عبر لغة المصالح الاقتصادية المشتركة.
aXA6IDE4LjExOC4xNDkuNTUg جزيرة ام اند امز