حين أزورها أشعر أن هناك حلقة وصل غريبة بينها والعروبة، وأن حصنها التاريخي، الواقف لآلاف السنين ويضم أقدم مملكة إسلامية في القرن الأفريقي، يوضح عراقتها وأصالتها.
تلك الأصالة والفن الذي يشبه لدرجة كبيرة الممالك الإسلامية والحصون، التي بُنيت في فترة العصور الإسلامية، خاصة نظام الطرقات والممرات والصرف الصحي الداخلي ومبانيها الأثرية.
إنها مدينة "هرر" الإثيوبية، التي تقع في شرق إثيوبيا، وتضم إرثا تاريخيا فريدا يعود لمملكة "هرر الإسلامية" وتاريخ يصل إلى أكثر من ألف عام.
كانت منارة التعليم الإسلامي والعربي في منطقة القرن الأفريقي، وما زالت معالم "هرر" الإسلامية من مساجد وأضرحة موجودة داخل المدينة التاريخية القديمة، داخل حصنها الأثري الذي يحيط بالمدينة ويطلق عليه حصن "جغول".
يعتبر حصن "جغول" من أقدم الحصون، وله خمسة أبواب تسمى "ايرر بر- فلانا بر-شوا بر- بودا بر-وسنقا بر".
وكلمة "بر" تعني في اللغة الأمهرية "باب".
ويرى خبراء أن الكلمة ماخوذة من العربية نسبة للتشابه بين اللغة العربية واللغات المحلية الإثيوبية، والتي من بينها الأمهرية.
وتسمى هذه البوابات باللغات المحلية، مثل اللغة "الأدرية"، وهي لغة أهل "هرر"، بأسماء (السوم بري-بدرو بري- سوق طاتا بري-اسما دين بري-ارقو بري".. وتختلف في تسمياتها، وتقع بها ممرات للصرف الصحي وممرات داخلية، وحسب خبراء المنطقة فإن الحصن بُني على النمط المعماري الإسلامي.
تعتبر "هرر" نموذجًا للتعايش بين الشعوب في إثيوبيا، إذ تجد فيها كل القوميات الإثيوبية المتعددة: "الأورومو" وهم الأغلبية، والأمهرة والهرريين، وبقية القوميات الإثيوبية، وفي "هرر" أيضا تجد كل اللغات الإثيوبية والعالمية، فتلاقي مَن يتحدث الأورومية والأدرية والأمهرية والصومالية والعربية، وغيرها من اللغات.
وكانت "هرر" في العصور السابقة لا يمكن الوصول إليها إلا بواسطة قافلة كبيرة أو رحلة بالبغال تستمر لأيام أو أسابيع أو أشهر، نظرا لوعورة السير بالمنطقة، والتي تكثر فيها الجبال والوديان. أما حاليا فالمسافة بالسيارة من العاصمة الإثيوبية، أديس أبابا، إلى مدينة "ديري داوة" تستغرق ساعة أو أقل.
و"ديري داوة" أقرب المدن لـ"هرر".. وهي بلدة السكك الحديدية الإثيوبية الحديثة، وتمتلك مطارا دوليا والعديد من المرافق الحكومية وفنادق من الدرجة الأولى، فضلا عن فنادق خاصة.
ومن أجمل المشاهد التي يمكنك أن تراها في "هرر" هو "رجل الضبع".. وهو رجل يقوم بإطعام الضباع عن قرب، إذ تجد تعايشا بين الضباع والبشر في تلك المدينة، وهي صورة قد لا تراها في منطقة أخرى من العالم.
وهنالك أساليب لمناداة الضباع وإطعامها من قبل الإفراد، وهي من الصور المغرية والمرعبة في آنٍ، والتي تجذب سياح هذه الهوايات الغريبة.
يوجد في "هرر" نوعان من المتاحف، خاصة وعامة.. فهنالك أفراد يمتلكون متاحف خاصة تضم أغلى التحف والآثار، وتعتبر قبلة للزوار والمهتمين بالآثار الإسلامية الإثيوبية، مثل متحف شريف ومتحف رامبو هاوس وادقار.
وقد تجد في "هرر" عوائل وأسر تعود أصولها لقبائل عربية من الجزيرة العربية ومن شمال أفريقيا ومصر وتركيا والهند.
وأثناء حضوري فعاليات ثقافية هناك، كنت أبحث عن متحدثين بالعربية، وخلال حديثي مع إحدى الطالبات بمدرسة "ابادر" باللغة العربية، إذا بسيدة عجوز تفاجئني بسؤال: أتتحدث العربية؟
قلت لها: نعم.. فقالت: أنا أعرف العربية وجدي مصري وما زلت أتحدث بها.
دهشت من حلقة الوصل التي لم تقطع العربية عن المكان منذ مئات السنين، فالأثر العربي متوفر وبكثافة في مناطق "هرر"، فتجد الآثار العربية والعملة العربية الأولى في متاحف المدينة، ونسخا من المصاحف الأولى، وكتب سيرة الأوائل متوفرة كآثار يفتخر بها الأهالي.. حتى الأزياء في "هرر" أقرب ما تكون إلى الأزياء العربية، خاصة أزياء النساء، والحلي المختلفة وأداوت الزينة، ونمط الحياة عموما في المنزل الهرري أشبه بثقافة البيت العربي في بلاد الشرق.. إنه الوصل التاريخي الذي لا توقفه حدود الجغرافيا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة