في عصر تسيطر فيه شبكات التواصل الاجتماعي على حيز كبير من وقت واهتمام شرائح كبيرة من الجمهور...
ويرسم محتواها، وتفاعلُ مستخدميها، كثيرًا من خطوط حياتنا اليومية، بشكل مباشر أو غير مباشر، من معارف ووجهات نظر، وقرارات أعمال واستثمار، واهتمامات ثقافية، وعلمية، وفنية، وموضة، وحتى قرارات شخصية وأسرية.. أصبحت آليات عمل العقول الإلكترونية التي تُشغّل هذه المنصات، والخوارزميات البرمجية، التي تقترح لنا المحتوى "المناسب"، تشد اهتمامي -واهتمام كثيرين طبعًا- بشكل كبير.
فلم يعد تأثير هذه الخوارزميات وآليات اقتراح المنشورات، التي نشاهدها في أثناء تصفحنا لأي منصة اجتماعية، يرتبط فقط مباشرة بالوقت الذي نقضيه على هذه المنصة، بل يتعدى هذا بصورة كبيرة، ليرتبط بصياغة رؤيتنا للعالم، ورأينا الشخصي، ومنه إلى صياغة الرأي العام.
للأمانة، المنصات الاجتماعية قامت بمجهود واضح في السنوات الأخيرة، فرفعت وتيرة عملها على محاربة الأخبار الكاذبة، والتوسع في توثيق الحسابات، وزيادة فاعلية آليات التبليغ، وعرض توضيحات لأسباب اقتراح ظهور بعض المواد "والإعلانات"، كما أطلقت مبادرات عمل واعدة مع المؤسسات الصحفية والإعلامية.
منذ أكثر من عقدين بقليل، كانت بداية حياتي المهنية تقنية بحتة، مرتبطة أساسًا بالبرمجة، وبالرغم من أنني حاليًّا لا أقوم بالأعمال البرمجية بشكل شخصي، ودوري متركز على بناء المنتجات الرقمية، ووضع الخطط، والاستراتيجيات، وتطوير الميزة التنافسية لها، والتأكد أن المشاريع المرتبطة بها تسير على أكمل وجه، فإن الجانب التقني لا يزال يرافقني حتى اليوم، فأحرص أن أبقى على اطلاع دائم على آخر تطورات التكنولوجيا الدقيقة، وأبحث عن أفضل السبل لتوظيفها بشكل فعال، وأركز دائمًا على التقنيات المرتبطة ببناء المنتجات الرقمية لمستخدمي الهواتف الذكية، والحلول السحابية، والذكاء الصناعي.
وبحسب طبيعة عملي المرتبطة بالإعلام الرقمي والمنتجات التقنية المرافقة له، كان محط اهتمامي الجانب التقني المتعلق بالآليات البرمجية والخوارزميات، التي تستخدمها منصات التواصل الاجتماعي، لتقترح علينا ما نشاهد أو نقرأ، وبالتالي تشكل جزءًا مهمًّا من وعينا ورؤيتنا للعالم، وبالتالي رأينا تجاه قضاياه.
لا يوجد -على حد علمي- وصف واضح ودقيق يبيّن الآليات والمعايير التي تستخدمها كل منصة اجتماعية في عرض المنشورات والفيديوهات، لكن يمكن بناء تصور أولي يتضمن مجموعة من العوامل المتداخلة، التي قد تعتمدها المنصات في اقتراح المواد علينا، والتي منها:
منشورات الحسابات التي نتابعها. المنشورات التي تحظى باهتمام الأشخاص الذين يشبهوننا "وفق رؤية ذكاء المنصات الاجتماعية"، مع مراعاة التفاصيل التي تجمعها المنصات عنا: العمر، الجنس، المكان الجغرافي، اللغة التي نستخدم، الأشخاص والصفحات التي نتابع، نوع الجهاز الذي نستخدم. نمط استخدامنا للمنصة وتوقيت الاستخدام.. وكذا المنشورات التي تحقق مشاهداتٍ وتفاعلا عاليا "الترند".. الأمور المرتبطة بعبارات البحث التي قمنا بها على المنصة وخارجها أحيانًا.. تاريخنا مع المنصة، وما تعرفه عن اهتماماتنا من خلال تفاعلاتنا ومشاهداتنا السابقة للمواد عليها... إلخ، وبالتأكيد الإعلانات والمواد المروَّج لها.
أعتقد أن "الأدمغة الإلكترونية" للمنصات توظف قدراتها في البحث ضمن ملايين المنشورات التي تضاف كل دقيقة، لتبني لنا اقتراحات جذابة، تراعي مجموعة متداخلة من المعايير، لكن بهدف أساسي يشمل: تشجيعنا على تكرار الزيارة للمنصة بشكل مستمر، وإطالة مدة بقائنا على المنصة في كل زيارة.. ما يسمح بعرض مزيد من الإعلانات أو المحتوى المُروّج.
في المرة القادمة، التي تشغّل فيها أحد تطبيقات شبكات التواصل الاجتماعي، اعرف تمامًا أن عقولها الإلكترونية وخوارزمياتها وبرمجياتها عملت بجهد لكي تعرض عليك سلسلة جميلة من المنشورات، التي تم اختيارها بعناية من بين ملايين المنشورات. اقتراحات قاموا بإعدادها بشكل أساسي وفق رؤيتهم لاهتماماتك الشخصية، ليشجعوك على قضاء أطول وقت ممكن لتشاهد وتتفاعل... لكن في كثير من الأحيان يمكن الملاحظة بوضوح أن هذه الخوارزميات تبقى اقتراحاتُها -بشكل كبير- محدودة باهتماماتنا، وما نرغب في مشاهدته، وما نتفاعل معه.
ولهذا جانب إيجابي طبعًا، لأننا لن نضيع وقتنا في مشاهدة محتوى خارج نطاق اهتمامنا.. لكن في الوقت نفسه -ومع الزمن- ربما يجعلنا هذا حبيسي نطاق مواضيع واهتمامات محددة، وقد لا يساعد هذا الأمر كثيرًا في توسعة نطاق رؤيتنا للعالم والتعرف على أمور جديدة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة