قد يظن البعض أن المشهد العربي الحالي بكل ما فيه من بؤس شيء جديد، أو أن النتيجة الكارثية للثورات العربية كانت بفعل مؤامرات خارجية، أو أن الثورات المضادة هي التي أجهضت الربيع العربي، وحالت دون تحقيق آمال الشعوب.
أو أن عدم تقديم الدعم الكافي للثوار من قبل الأشقاء والأصدقاء خذل الثورات، وتركها لوحوش النظم المستبدة.
كل هذه الحجج تقوم على افتراض أن ما يحدث اليوم في العالم العربي ظاهرة جديدة لا سابق لها، وأنه كان من المتوقع أن تكون هناك نتائج أخرى غير الحنظل الذي ذاقت مرارته كل شعوب الجمهوريات العربية.
النتيجة الوحيدة المؤكدة للثورات العربية هي انهيار الأوطان، وضعف الدول وعودة الاستعمار، فبعد 12 سنة من الربيع العربي المشؤوم لم تبقَ دولة عربية انطلقت فيها الثورة إلا وقد فقدت من إمكاناتها الاقتصادية، وتكاملها المجتمعي، واستقرارها السياسي، ومكانتها الدولية ودورها، الشيء الكثير.
بل إن بعض الدول العربية فقدت وجودها كدولة، وتحولت إلى حطام تتنازعه عصابات يحركها مَن يمولها من وراء الحدود، وإذا عدنا للوراء قليلاً لنضم إلى الربيع العربي العراق الذي شهد عملية تغيير سياسي على يد قوة دولية محمولة على معارضة بعضها كان عميلاً لأجهزة مخابرات دولية، ومعظمها يحمل جنسيات دول أجنبية؛ ومن المفارقات أن الثوار في ليبيا وسوريا رفعوا أعلاماً من مرحلة الاستعمار، فكانت النتيجة أن جاء الاستعمار، وقدم صبيان اليمن بلدهم ومذهبهم وتاريخهم قرباناً على مذابح أسياد لهم، وفقدت مصر وتونس استقرار اقتصادهما، وتحولتا إلى موقع آخر في بنية النظام العربي، موقع لم يسبق لأي منهما أن كانت فيه، وعبث الإرهاب بالمجتمع، وأصبحت الدولة ذاتها في حاجة إلى ترسيخ شرعيتها بعدما كانت هي الشرعية ذاتها.
تاريخنا مع الثورات عجيب، غالباً ما تكون أحوالنا بعدها أسوأ مما كانت عليه قبلها، إلا في استثناءات قليلة جداً، ولأسباب لا علاقة بالثورات ذاتها، فلنمعن النظر في ثورة أحمد عرابي 1881، كانت نتيجتها استعمار مصر لـ70 سنة تالية، والثورة العربية الكبرى التي قادها شريف مكة، مثلت أكبر كارثة في تاريخ العرب، إذ نتج عنها تفكيك العالم العربي، واستعماره جميعاً، وعلى ذلك فقس معظم الثورات العربية التالية مع استثناءات محدودة مثل ثورة 1919 و1952 في مصر.
وهنا لا نريد أن نقوم بعملية تعميم، أو الخروج بحتميات، وإن غاية ما نقوم به هو الملاحظة والرصد التاريخي لتكرار نفس النتائج على نفس الأفعال.
وهنا يثور السؤال: لماذا يحدث مع العرب هذا؟ لماذا تنجح محاولات التغيير في أوروبا الشرقية، وأمريكا اللاتينية، وأفريقيا وتفشل عند العرب؟ وقد تكون الإجابة في الآتي:
أولاً: إن المجتمعات العربية منذ مجيء الحملة الفرنسية 1798 صارت أضعف من الدول أو من الحكومات، وهذا الضعف جعلها في حاجة دائمة لجهاز دولة قوي، لأن المجتمع المدني الذي كان يقوم بمعظم حاجات الإنسان؛ من تعليم وصحة ورعاية اجتماعية؛ معتمداً على الأوقاف؛ بدأ يفقد قوته تدريجياً، حتى فقدها كلياً مع سياسات التأميم التي تلت ثورة 1952 في مصر، وصارت نمطاً قلدته الدول العربية الأخرى.
وهنا نجد أنه من العبث أن يسعى مجتمع ضعيف عالة على الدولة إلى الثورة على الدولة وتغييرها، لذلك كان من الطبيعي أن تسقط ثمار حركات التغيير العربية في يد الطرف القوي الجاهز لالتقاط تلك الثمار، سواء أكان هذا الطرف الدولة ذاتها، أو دولة إقليمية، أو قوى دولية.
ثانياً: فشل محاولات تحديث المجتمعات العربية منذ محمد علي في مصر، والباي في تونس في النصف الأول من القرن الـ19 وحتى اليوم، وهذا الفشل يظهر جلياً في وجود نخبة حداثية على النمط الأوروبي كما تعرف نفسها، أو متغربة علمانية كما يعرفها خصومها، تلك النخبة عبارة عن شريحة ضئيلة غير متجذرة في المجتمع، ولا تملك روابط ثقافية معه، ولا تعرف كيف تفك شفرات لغة التواصل مع فعالياته، لذلك كانت القوى الجاهزة لركوب الثورات العربية هي القوى الإسلامية، وكان أكثرها بساطة في الفكر، وسطحية في الفهم، وانتهازية في الحركة هو الذي استطاع حشد الجماهير خلف شعاراته إلى أجل محدود؛ ظهرت بعده حقيقته فانفض الناس من حوله، وعادت الأمور إلى النخب الحداثية التي تمسك بتلابيب السلطة في مصر وتونس، أو انفلتت الأمور إلى مستويات دنيا قبلية ومذهبية وعرقية ومناطقية في ليبيا وسوريا واليمن.
ثالثاً: مثلت الثورات العربية فرصة للانتهازيين والطامحين والمغرورين لتحقيق أحلام خيالية في السلطة والثروة والمكانة والنفوذ، فدخلها وتصدر قيادتها وتكلم باسمها كل من يملك المهارة اللفظية، والشخصية الفهلوية، والوجه النحاسي، والضمير الميت، من مثقفين وكتاب وأساتذة جامعات وصحفيين ورجال دين ودعاة؛ ممن ليس لهم أي سابق تجربة في ممارسة العمل السياسي، ويكفي أن تنظر في تاريخ الغالبية الكاسحة ممن تصدروا لقيادة ثورة يناير/كانون الثاني 2011 أو ممن يقودون المعارضة السورية، ستجد أسماء لا تاريخ لها ولا سابق خبرة لها.
وهنا يخبرنا الشاعر الجاهلي حكيم العرب قبل الإسلام الأفوه الأودي: "أَعطَوْا غُواتَهَمُ جَهْلاً مَقادَتَهُم … فكلُّهُمْ في حبالِ الغَيِّ مُنْقادُ / لا يَصْلُحُ الناسُ فَوضَى لا سَراةَ لَهُمْ … ولا سَراةَ إذا جُهَّالُهُمْ سادُوا"، ولفظ السراة يعني القائد العالم الخبير، وهو ما فقدته الثورات العربية فصارت المجتمعات في حبال الغواية والضلال تنقاد.
هذه عينة من الأسباب وغيرها كثير، ولكن النتيجة واحدة، قامت الثورات العربية وقبلها انتفاضات العراق، للتخلص من استبداد النظم الديكتاتورية، فقادت تلك الثورات مجموعات من الأحرار الخونة، الساعين لتحقيق الحرية للمواطن من خلال خيانة الوطن، وتقديمه للمستعمر الأجنبي، فسقط العراق في حجر إيران، واليمن كذلك، وسوريا تتكالب عليها تركيا وإيران وروسيا، وليبيا تنهش فيها قوى الاستعمار القديم والجديد، ومصر وتونس استطاعتا النجاة من الاستعمار السياسي، وندعو الله أن تنجوا من أخيه الاقتصادي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة