تمضي التقييمات الأمريكية في مجملها لما يجري في روسيا، والخاص بما جري مع مقاتلي فاغنر، على أنه لن ينتهي بسهولة، ولن يحسم على عكس ما طرح في فترة وجيزة بل إنه قد يستمر لمدة طويلة.
وهذا ما قد يكون عنوانا لمواجهات أخرى تجري في المؤسسة العسكرية الروسية، وصراع الجنرالات الكبار داخل المؤسسة، والتي لن تقتصر على تحديد مستقبل وزير الدفاع سيرغي شويغو فقط، بل ستمتد إلى صقور المؤسسة الكبار الذين يتحركون في دوائر عدة، ومن خلال مقاربات أمنية وسياسية، والتي تركز إدارة الرئيس بايدن على طرح تقييمات منضبطة تجاه ما سيجري.
أولها: وفقا للرؤية الأمريكية فإن هناك تصدعات حقيقية في بنية ما يجري في القوات المسلحة الروسية جراء استمرار العمليات العسكرية في أوكرانيا، والاختلاف في إدارة المشهد خاصة بالنسبة للمضي قدما نحو إتمام عملية عسكرية شاملة، أو الاكتفاء بما يجري في ظل الهجوم المضاد لأوكرانيا، ما قد يكون عنوانا للتباين في وجهات النظر، وتصميم بعض قيادات المؤسسة العسكرية الروسية على تطوير العمل العسكري في ظل الدعم اللامحدود، الأوروبي، والأمريكي، للقدرات الأوكرانية الأمر الذي يتطلب مراجعة الاستراتيجية الروسية الراهنة، وتشير أجهزة المعلومات الأمريكية، وتحديدا الاستخبارات المركزية إلى أن الرئيس بوتين لن يكون قادرا على الاستمرار في موقفه إلى ما لا نهاية في ظل ما يجري، وتحقيق أوكرانيا مكاسب حقيقية، أو استرداد بعض المدن الاستراتيجية في مناطق التماس، وهو ما سيغير من الوقائع على الأرض بالفعل، وسيؤدي لمزيد من التوترات الحقيقية التي يمكن أن تعلن عن نفسها في المواجهة المقبلة.
ثانيها: يظل القلق الأمريكي بل والفزع من إقدام روسيا على تحريك حضورها الاستراتيجي والأمني للأسلحة النووية في إشارة إلى أن روسيا أعادت تموضعها في بيلاروسيا لتكون نظريا قادرة علي الاستخدام بشرط وجود محطات الإطلاق الرئيسية، والتي يمكن أن توجه للوجود الأمريكي، والغربي عند الضرورة، وفي ظل توقف مفاوضات ستارت 2 الجديدة بعد شد وجذب أمريكي روسي طوال الفترة الماضية، وبعد الاتفاق الأولي الذي كان مطروحا في إجراء المفاوضات على وجه السرعة.
ومن ثم فإن التقييم الأمريكي بأن روسيا قد تستخدم النووي البسيط، أو غير المؤثر للتأكيد بأن لديها الإمكانية لتحقيق ذلك، وهو ما قد يكون مصدر قلق للإدارة الأمريكية بالفعل في الفترة المقبلة، خاصة وأن الاستخدام الروسي الرشيد قد يكون غير وارد في ظل الضغوطات الأمريكية الأوروبية على الجانب الروسي، ومحاولة توظيف الأحداث الخاصة بمقاتلي فاغنر، والتعامل مع قيادات المجموعة الأمر الذي قد يؤدي إلى مزيد من حدود التوتر والتجاذب، وهو ما تسلم به الإدارة الأمريكية من وجود مساحات كبيرة من الخلاف داخل روسيا يمكن استثماره، والعمل عليه أمنيا واستخباراتيا بعد أن أشاعت الاستخبارات المركزية أنها كانت تعلم مسبقا بما قام به رئيس مجموعة فاغنر، وهو أمر طبيعي لعمل ومتابعة المخابرات المركزية شأنها شأن أي جهاز استخبارات عالمي على اعتبار أن هذا الأمر مرتبط بجمع المعلومات والبيانات، ومحاولة رصدها والتعامل معها، والتدخل في درجات معينة لإحباطها.
وبالتالي لا مجال للتفاخر بالعلم، أو عدم علم الاستخبارات المركزية بما يجري خاصة، وأن أجهزة الاستخبارات - بعد قليل - سيتم استجواب مديرها ويليام بيرنز، في الكونغرس حول مدى علمه، وتعامله مع التطورات الجارية والمهمة في هذا السياق الأمني والاستخباراتي، ولهذا فإن الاستخبارات المركزية تتحرك في دوائر عدة لمتابعة ما يجري في روسيا دون تدخل فاعل، أو مؤثر لإدارة المشهد السياسي على الأقل حتى الآن.
ثالثها: تريد أجهزة الاستخبارات المركزية التأكيد على أن هناك تنسيقاً يتم مع مجموعة السبع الكبرى بهدف التركيز على الأولويات المحددة والمنضبطة، والتي تعمل في سياق الحفاظ على المصالح الأمريكية، والغربية في التعامل مع روسيا، ولهذا فإن التقييمات العامة تتجه إلى التأكيد على أن روسيا كدولة ستشهد حالة من عدم الاستقرار نتاج ما يجري، ويرتبط بالتعامل المباشر، وعدم فقد الإشارة أو الرصد خاصة وأن الرئيس الروسي بوتين – وفقا للنهج الأمريكي – لن يقدم على تقديم أية تنازلات حقيقية في التعامل سواء داخليا أو خارجيا بل سيمضي كرجل استخبارات، وليس سياسة في مساره العام، وسيعمل على التوصل لخيارات حقيقية وبناء مقاربات تصعيدية عند الضرورة، وسيكون حليفه الرئيسي هو الصين، والقادة الصينيون الذين يعملون لتحقيق مصالح كبرى، ما يشير إلى أن إدارة الرئيس بايدن تركز على سيناريوهات ما يجري روسيا وصينيا معا، مع الاستمرار في إطلاق التحذيرات من بناء محور روسي صيني إيراني يعمل ضد المصالح الأمريكية ومحاولة استرداد تركيا إلى الجانب الغربي، وللولايات المتحدة خاصة بعد أن تأثرت السياسة الأمريكية تجاه تركيا، وشخص الرئيس أردوغان قبل الانتخابات الرئاسية.
وفي الوقت الراهن تبدو الدعوة ملحة أمريكيا لعدم ترك أي مساحات للمناورة لتركيا تأتي على حساب الأمن القومي الأمريكي أو استراتيجية إدارة الرئيس بايدن للتحرك، أو الاتجاه إلى بناء تحالفات جديدة تؤثر على النهج الأمريكي في التعامل.
رابعها: تخلص إدارة الرئيس بايدن على أن الإخفاق الروسي في أوكرانيا سينعكس على مجمل الحركة الروسية في مناطق متعددة في العالم خاصة، وأن مجموعة فاغنر متواجدة في العديد من دول العالم، وليس في مسرح عمليات واحد ما يشير إلى أن التحرك الروسي سيكون مقيدا - وفق التصور الأمريكي- أمنيا وسياسيا، ولن يتحرك في مسارات معتادة، فالجانب الأمريكي يردد أن القدرات الروسية باتت في مأزق حقيقي وأن ما يجري داخل المؤسسة العسكرية الروسية، وخارجها سيخدم النطاق الأوكراني، وسيدفعها إلى تبني إجراءات عليا بالفعل في إطار سيناريو غربي وأمريكي بالفعل لدفع روسيا إلى حافة الهاوية بدليل أن الانتقادات الأمريكية للقدرات الروسية الكبيرة مرتبطة بالفعل بما ستمضي إليه الأوضاع بين القوات المسلحة الروسية، وقوات فاغنر، والتي لن تقبل بالخيارات الراهنة، والتي طرحت مؤخرا برغم كل ما يتردد في ظل سيناريو قائم على فكرة أن روسيا باتت في وضع مترد، وهذا الأمر يجب أن يؤخذ بصورة مختلفة تماما في ظل تحذيرات أمريكية يطرحها أكاديميون وسياسيون سابقون، وبعضهم عمل في إدارات كيلنتون وأوباما من أن روسيا ليست جمهورية موز، وأنها دولة كبيرة، وقادرة على تجاوز أية عثرات، وأن مجموعة فاغنر سيحدد دورها في إطار منضبط لا مجال فيه للخروج عن التقاليد الروسية الصارمة التي يمكن أن تؤثر في نطاقات محددة ما يشير إلي أن روسيا دولة كبيرة، وليس الرئيس بوتين فقط هو الذي يدير ما يجري في الوقت الراهن في روسيا بل معه العديد من الجنرالات الكبار، ويرتبط بما هو قادم من سيناريوهات.
في المجمل، فإن ما يجري في الأوساط الروسية سيظل على رأس الأولويات الأمريكية أمنيا واستخباراتيا وسياسيا، لكن الإشكالية الكبرى مرتبطة بالفعل بكيفية التعامل والمواجهة، وهل يتم عبر وسائل مباشرة، أم عبر وسطاء على اعتبار أن الإدارة الأمريكية لا تريد أن تبدو في الواجهة معتمدة على خياراتها الراهنة، ووسائل استخباراتها التي تتعامل انطلاقا من وجود إخفاق أمني واستخباراتي روسي في التعامل وفق استراتيجية محدودة وضيقة، وهو تصور قد يكون غير صحيح في مجمله العام، ويحتاج إلى مقارنات ومراجعات تمس ما يجري أمنيا واستراتيجيا المنظومة الهيكلية بين واشنطن وموسكو.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة