قبل عشر سنوات كان العالم العربي يستعد لتصيب بعض دوله وأنظمتها السياسية ثورات مبهمة في أسبابها ونتائجها.
فعلى طريقة الثورات الشعبية أسهمت هذه الثورات في صناعة تغييرات جذرية في تلك الدول، وحقيقة تلك الثورات أنها كانت تعبيراً مفتوحاً لتطورات سياسية كان متوقعاً حدوثها، ولم يكن هناك من هو قادر فعلياً على التنبؤ بالكيفية التي انساقت بها الشعوب العربية نحو ذلك المنحدر الثوري الخطير.
هنا يجب الإشارة إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت لها المبادرة الأولى في التقاط تسمية تلك المرحلة بـ"الربيع العربي" تعبيراً عن الظاهرة بأكملها التي استدعت شعوب بعض الدول العربية إلى ذلك المسار، وتم ابتكار تسمية إعلامية أقل قسوة من الحديث عن الثورات العربية عبر نعت ما يجري بـ"الفوضى الخلاقة"، وكانت الصورة السياسية المنتظرة أن تتحول تلك الدول إلى نماذج سياسية فريدة، بحسب تلك التسمية، وهو ما لم يحدث.
ففي العراق الذي تعمدت أمريكا في عام 2003م أن يكون شارة البداية، انطلقت أحداث ومسارات الربيع العربي بسبع سنوات تقريباً، ومهدت حالة العراق وتنبأت نظرياً بما سمي "الربيع العربي"، والحقيقة أن حالة بعض الدول العربية لم تكن بحاجة إلى إدراجها ضمن مشروع الربيع العربي،
فقد كانت تتجه وبسرعة هائلة إلى حالة سياسية لم تكن مطمئنة نحو منحدر الثورة، ولنعد إلى حالة العراق التي بدت أنها حالة مستعصية في طبيعة العراق الاجتماعية، وكان الهدف الخيالي أن يمحو العراق الجديد جميع الاختلافات بين الشعب للوصول إلى حدود التنسيق الكلي بين مكونات المجتمع العراقي، وكانت هذه المثالية مجرد خيال فكري مصادم للواقع، فقد كان الدخول السهل لأمريكا، بمثابة منشط سريع لسيطرة الأيديولوجيا الإيرانية على المسرح العراقي بسرعة بعدما سمحت تلك الحالة من الفوضى السياسية بكشف الغطاء أمام الإيرانيين، عبر إنعاش خطاب مذهبي مستعد للانفجار.
على الجانب الغربي من العالم العربي، أحرق بائع فاكهة نفسه في تونس، فنقل إلى المستشفى ومات ثائراً تحت تأثير نظام عجز أن ينتج قانوناً يحمي الباعة المتجولين كونهم سيصبحون مدججين بالثورة وهم يجوبون الشوارع ومعهم الفقر والبطالة وفشل الحياة والتنمية، لأنهم نتاج طبيعي للخطأ السياسي، ومع ذلك لم يكن بالإمكان التنبؤ بعدم حدوث الثورة، ولو لم يحرق "البوعزيزي" نفسه لأحرق أحد آخر نفسه من أجل تونس.
وفي سوريا، يكتب أطفال على جدار مدرستهم تحذيراً لرئيس دولتهم من أن يأتيه الدور في الثورات، وتنطلق الثورة، بينما اعتقدت السياسة أنها في مساحة سياسية قادرة على أن تحافظ على بقائها زمناً أكثر، وهو ما لا يوجد في العالم الواقعي، أما ليبيا فلم تكن بحاجة إلى من يحرق نفسه، فقد كان الشعب الليبي ونتيجة للهشاشة في البناء السياسي للدولة جاهزاً لأي تحرك.
المجادلة هنا أن كل الثورات العربية لم يكن بالإمكان إيقاف حدوثها، فقد كانت تعبيراً دقيقاً عن فشل سياسي عميق في الجذور الشعبية التاريخية، أسهم في إيجاد مساحات واسعة من التعصب الأيديولوجي والتعصب القومي غير المروض بأدوات سياسية توفر مساحات واسعة من الاستيعاب الشعبي.
هنا يأتي السؤال حول تلك الآثار التي تركها الربيع العربي على الشعوب العربية، ليس هناك من شك أن حجم الخسائر كبير جداً على الأقل في شكل المنظومة السياسية التي كانت تمثل تلك الدول التي انهارت، أما السؤال الثاني فهو يدور حول تلك الدول التي لم تستطع موجة الربيع العربي الاقتراب منها.
الدول العربية الغنية على وجه التحديد لا يمكن أن تدخل في حسابات الربيع العربي، فهي في حقيقتها تضاهي في استقرارها السياسي الدول الغربية المستقرة، كما أن الدول العربية الغنية لم تكن تعاني شعوبها من ميول سياسية غامضة، وبهذا التصور فإن العديد من الأخطاء السياسية للكثير من الدول العربية هي التي أسهمت في أن يدفع العالم العربي تلك الأثمان الباهظة من الخسائر السياسية، التي لن يكون من السهل إصلاحها خلال خمسة عقود قادمة على أقل تقدير.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة