خلال الأيام القليلة الماضية، ظهر للمتابعين أن تركيا تتغير أو تركيا تستيقظ من سُباتها العميق وتعود من التيه السياسي.
تصريحات جاءت من أعلى هرم السلطة السياسية في تركيا، بدءاً من الرئيس رجب طيب أردوغان، مروراً بوزيري الدفاع والخارجية والمتحدث باسم الرئاسة.
جميع هذه التصريحات تدخل بشكل صريح إلى تكسير حيطان العزلة التي فرضوها على أنفسهم وإعادة الاندماج في المحيط الإقليمي.
بداية التحرك كان ناحية مصر ثم السعودية ودول الخليج، حيث قال أردوغان صراحة: "عملنا مع مصر لم يتوقف فهو مستمر على المستوى المخابراتي والاقتصادي والاستثماري، كما أن العلاقات بين الشعبين أكبر بكثير من العلاقات بين مصر واليونان".
ثم قبلها أشار وزير الخارجية التركي إلى أنهم بدأوا اتصالات مع القاهرة، وأن العلاقات ستتم ولكن بخطوات هادئة وتحتاج إلى استراتيجية معينة.
وزير الخارجية أضاف، في تصريح آخر، أنهم قد يوقعون مع مصر اتفاقات ترسيم الحدود البحرية.
أما المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين، قال: "نسعى لفتح صفحة جديدة من العلاقات مع مصر ودول الخليج"، وهذا ما أكده وزير الدفاع خلوصي أكار.
من كل ما سبق من مواقف تركيا تجاه مصر والسعودية ودول المنطقة، يمكن القول إننا أمام تغير حقيقي في السياسة التركية، وهنا أقصد السياسة الخارجية مع دول المنطقة.
هذا التغير يقوم على استراتيجية واحدة، وهي استراتيجية الرجوع والتخلي عن السياسة التي اعتمدها أردوغان خلال الأعوام السبعة الماضية وما قبلها، أي مع بداية موجة الربيع العربي ما بعد 2011، وملامح هذه السياسة كانت تغليب البعد الأيديولوجي على البعد السياسي، فأصبح الأمر عند أردوغان أيديولوجيا تقود السياسة وليس نهجاً سياسياً تتخلله الأيديولوجيا.
باتت معايير التنظيم الدولي للإخوان هي التي تحكم الممارسة السياسية الأردوغانية، وبات الرجل إخوانياً أكثر منه رئيساً لتركيا.
أردوغان، لعب بهذه الورقة مع موجات الربيع العربي ظناً منه أنها ستكون الورقة الرابحة حين يحكم الإخوان تونس ومصر وليبيا، لأنه كان يسعى لخلق تحالف حكم إسلاموي إخواني، يستطيع أن ينافس به تحالفات أوروبية، خصوصاً الاتحاد الأوروبي الذي أغلق أبوابه في وجه أردوغان كثيراً.
لكن مع مرور الوقت خسر أردوغان الرهان، ووضع نفسه في موضع الذي يدفع جميع الفواتير بدلاً من الوضع الذي كان يطمح إليه وهو جاني الغنائم.
سقط الإخوان في مصر بعد ثورة 30 يونيو، واستضاف أردوغان التنظيم العالمي للإخوان عنده وفتح خزينته التي كنت تعاني تصدعاً وفراغاً أمامهم.
دخل في صراع سياسي مع القاهرة ومع النظام المصري، جعله يخسر الكثير ثم فتح جبهة في ليبيا من أجل المناكفة السياسية مع مصر، وفي النهاية خسر وتدخل المجتمع الدولي وتغيرت الرموز التي كانت تدعم أردوغان "فلا السراج استمر ولا خالد المشري ظل"، والمليشيات مآلها الخروج من ليبيا.
أما المناكفات مع السعودية ودول الخليج حين استغل خلاف الأشقاء أيام الأزمة مع قطر وراح يلعب على أوتار الفتنة وعقد اتفاقات مع قطر وإيران وغيرهما.
أما توتير منطقة شرق المتوسط واليونان، فكان نوعاً من الانتحار السياسي، فأردوغان يعرف أن اليونان ليست مجرد الدولة الصغيرة التي تعاني تعثراً اقتصادياً كاد أن يؤدي إلى إفلاسها وإنما اليونان هي بوابة أوروبا والجذر التاريخي والثقافي لهم.
وهو يعرف أنهم سيقفون جميعاً في وجه من يريد الإضرار باليونان، وبالتالي جاء الموقف الفرنسي والأوروبي الداعم لليونان مخيفاً لأردوغان جعله يتراجع إلى الوراء.
خلال الأيام الماضية أيضاً رضخ أردوغان أمام المحور الأوروبي، حين أدار حواراً مع الرئيس الفرنسي عبر تقنية الفيديو كونفرنس من أجل تذويب جليد التوتر في العلاقة، ربما ينجح ماكرون في قبول توبته السياسية.
أردوغان أدرك بعد مغامرة السنوات الماضية أنه خسر، وأن الخسارة كانت أكبر من العناد العثماني والتغطرس الإخواني، أردوغان أجبر على الرجوع إلى الوراء والتوقف عن رهاناته الخاسرة، بعد أن أدرك، وهنا نقطة مهمة جداً، أن منهج القوة قد يفيد أحياناً لكنه سيكون مكلفاً جداً، وأن نهج القوة تلجأ إليه الدول الواعية كضربات خاطفة من أجل الدفع نحو طاولة الدبلوماسية، لأنها لغة التأثير الأهم وليست الحروب.
إن فاتورة أردوغان التي دفعها مقابل منهج القوة جعلت الخزينة التركية تتهاوى، وجعلت الليرة التركية تسقط إلى العدم.
فاتورة منهج القوة جعلت أردوغان وحيداً بعد أن غادره حلفاؤه في الداخل، وتفكك تحالفه وذهب كل شريك ليؤسس حزباً جديداً أو ينضوي في تكوين سياسي منافس له.
أردوغان يدرك الآن أن صديقه "أحمد داود أوغلو"، كان هو الأصح حين قال "إن الخلاص التركي يبدأ من سياسة تصفير المشكلات".
أردوغان جرب سياسة مائة في المائة مشاكل وجاءت النتيجة صفر مربع.
الموقف الآن لأردوغان تخطى التوبة السياسية ليقع في مربع الإهانة، بعد أن راح يطلب الود من مصر فلا ترد، ومن السعودية وترسل طائراتها إلى اليونان للمشاركة في المناورة العسكرية على مياه المتوسط، وهي خطة تحمل رسائل عدة لأردوغان شخصيا.
المصريون نجحوا في حشر أردوغان في زاوية الخسارة المؤلمة، حين أسسوا منتدى غاز شرق المتوسط في 2019 فيه "اليونان، وقبرص، وإسرائيل، وإيطاليا، والأردن، وفلسطين"، وليس فيه تركيا، القاهرة أصبحت المركز الرئيسي لسوق الغاز في شرق المتوسط، وبالتالي لا يمكن لأردوغان الدخول إلا عبر بوابة القاهرة.
لا أحد يرد على رسائل استعطاف أردوغان، لكن المواقف المتوقعة من مصر والسعودية ودول الخليج ستكون خارطة إثبات حسن النوايا من أردوغان، وهي ستكون كالتالي: التخلي عن دعم جماعة الإخوان وفصائلها وأذرعها، ووقف الإعلام المسموم الذي يوجه ضد مصر، والتوقف عن المناكفات السياسية في العراق وليبيا وسوريا والصومال.
بعدها تجيء مرحلة الجلوس إلى طاولة النقاش.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة