تعزيز العمل العربي المشترك المبني على منهجية واضحة وأسس متينة تحمي الأمة العربية
مهمة القمة العربية، التاسعة والعشرين، التي انعقدت في المملكة العربية السعودية كانت صعبة منذ البداية؛ لأن المشككين كانوا مع الأسف من الداخل قبل أن نتحدث عن الخارج. الطرح السلبي المتشائم كان يقول إن القمم السابقة لم تحقق الكثير، فلماذا يحدث العكس هذه المرة؟.
لكن البوصلة التي حملتها القيادة السعودية في توجيه مسار قمة الظهران وهي التي ستقود المرحلة المقبلة بعد تسلمها لمهام الرئاسة للدورة الحالية للجامعة، خيّبت آمال المراهنين على الفشل عندما تحدث العاهل السعودي عن خارطة الطريق وأسس ومعالم المشروع العربي الموحد وحق المنظومة العربية في الوجود أمام طاولة رسم السياسات الإقليمية، وتحديداً ما يتعلق منها بالعالم العربي وقضاياه، وعندما كان الصوت العربي واحداً موحداً بخلاف العشرات من القمم السابقة التي كانت تعقد وسط أجواء من الانقسام في الصف رغم الظروف السياسية والأمنية والاقتصادية الصعبة التي تمر بها هذه الدول.
التصعيد الإيراني في الأشهر الأخيرة ضد دول الخليج وتحريك الورقة الحوثية على هذا النحو المكشوف مؤشر على اكتشاف طهران أنها ستحصد ما زرعته إقليمياً من خطط ومشاريع تفرقة وشرذمة عرقية ومذهبية.
بقدر ما كان الرهان على لعب أوراق المنعطفات الخطرة والظروف والمتغيرات المتسارعة على الساحتين الإقليمية والدولية ضد الدول العربية وبقدر ما كان يتطلع البعض نحو قمة تعقد فقط لمجرد الانعقاد، مراهنا على كلاسيكيتها في الطرح والقرارات بقدر ما جاءت رسائل القمة قوية واضحة موحدة ومتماسكة في إدراكها لما يحاك ضدها من مخططات تهدف إلى التدخل في شؤونها الداخلية وزعزعة أمنها والتحكم في مصيرها، ورفض أي مشروع وصاية أو تجاوز لحقوق ومصالح ونفوذ العالم العربي والاستعداد لمواجهة هذه المخططات أو السيناريوهات مهما كان الثمن.
القمة العربية الـ٢٩ في الظهران أتت وسط محاولة واضحة لقلب المعادلات والتوازنات الإقليمية على حساب العالم العربي، حيث اتسعت رقعة الاستهداف في الأعوام الأخيرة بشكل ممنهج وخطير لناحية الأهداف والأساليب، لذلك كان الرد بحجم التطاول والتآمر في المكاشفة والمصارحة سواء عبر كلمات رؤوس الوفود أو البيان الختامي للقمة والإصرار على طرح خارطة طريق جديدة وسط كل هذه التهديدات والمخاطر والتحديات التي تعصف بالمنطقة.
البارز أولا كان حراك القادة السعوديين في التجهيز والتخطيط والطرح تحت جناح خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، بهدف إنجاح أعمال القمة وإيصال رسائلها وصوتها من السعودية، مركز الثقل العربي والإقليمي في قلب الخليج.
الرياض نجحت أولاً في تمسكها برفع مستوى التمثيل والمشاركة في القمة. وهي نجحت ثانياً في ضبط مسألة توجيه الرسائل ورفع شعارات وأهداف القمة وتطلعاتها، ونجحت ثالثا في التعبير عن حجم الغضب من إصرار البعض على سياسات الاستفزاز والتحدي والمزايدات الرخيصة وسط كل هذه الظروف الصعبة والحرجة التي تمر بها المنطقة.
إطلاق مبادرة تعزيز الأمن القومي العربي لمواجهة التحديات المشتركة "إيماناً منا بأن الأمن القومي العربي منظومة متكاملة لا تقبل التجزئة، وللتعامل مع التحديات التي تواجهها الدول العربية"، وتسمية القمة بـ"قمة القدس" انطلاقا من "الرغبة القوية في إعادة الاعتبار للقضية الفلسطينية التي تمثل القضية المركزية والأساسية للعرب بعد أن أثرت عليها الأزمات المتفاقمة في المنطقة"، والتذكير مرة أخرى بأن "القضية الفلسطينية هي قضيتنا الأولى وستظل كذلك، حتى حصول الشعب الفلسطيني الشقيق على جميع حقوقه المشروعة، وعلى رأسها إقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية"، والتذكير مرة أخرى بضرورة إيجاد الحلول المناسبة لهموم المنطقة العربية، وطرح موضوع أهمية تطوير جامعة الدول العربية ومنظومتها كان أولى المؤشرات التي أعطاها العاهل السعودي على أن القمة ستكون مختلفة هذه المرة.
في الظهران، حيث عُقدت القمة العربية التاسعة والعشرين كانت الرسائل واضحة:
أولى رسائل القمة كانت في اختيار الملك سلمان مدينة الظهران على ساحل الخليج العربي مكاناً لانعقادها لتسمع وترى إيران المشهد عن قُرب. وجاء النص الأكثر وضوحاً ومباشرة حين قال البيان: "نرفض التدخلات الإيرانية في الشؤون الداخلية للدول العربية، وندين المحاولات العدوانية الرامية إلى زعزعة الأمن وما تقوم به من تأجيج مذهبي وطائفي في الدول العربية بما في ذلك دعمها وتسليحها للمليشيات الإرهابية في عدد من الدول العربية".
وبعدها تقدم موضوع إيلاء القضية الفلسطينية المزيد من الاهتمام والتأكيد على مركزية قضية فلسطين بالنسبة للأمة العربية، وعلى الهوية العربية للقدس الشرقية المحتلة، عاصمة دولة فلسطين وعلى "بطلان وعدم شرعية القرار الأمريكي بشأن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل"، وتخصيص السعودية مبلغ 200 مليون دولار لدعم برنامج الأوقاف الإسلامية في القدس ووكالة الإغاثة "أونروا".
ثم جاء دور الوثيقة التي صدرت عن القمة حول الأمن القومي العربي، والمصاغة بشكل متوازن وإيجابي وتراعي الأولويات العربية.
لتكون الرسالة الرابعة بتذكير الجميع بأن السلام الشامل والدائم في الشرق الأوسط هو خيار عربي استراتيجي مرتبط مباشرة برفض أي محاولة تخل بهذا التوازن في هذه المنطقة.
وليعقب ذلك التركيز على خطورة السلوك الإيراني في المنطقة، وانتهاكه لمبادئ القانون الدولي، ومجافاته للقيم والأخلاق وحسن الجوار، حيث أثبت ذلك وقوفه وراء توجيه 119 صاروخا باتجاه الأراضي السعودية، ثلاثة منها استهدفت مكة المكرمة، وتحميل المليشيات الحوثية كامل المسؤولية حيال نشوء واستمرار الأزمة اليمنية.
والدعوة المباشرة لمعالجة الشرخ الناتج عما سُمي بـ"ثورات الربيع العربي" التي لم تبق دولة عربية سليمة من آثار تلك التحركات المفتعلة والمخطط لها من قبل الخارج.
والدعوة مرة أخرى إلى جهد عربي حقيقي يحمل بارقة أمل جديدة نحو استرداد الثقل العربي، حيث لا تزال جامعة الدول العربية المؤسسة العربية الوحيدة التي تجمع العرب، كل العرب، تحت مظلتها، وتمثل الإطار المؤسسي والواجهة التنظيمية للحكومات العربية أمام شعوبها.
أما في طليعة المهام التي تنتظر الجامعة العربية ودولها كما طرحت في الكلمات ونوقشت في الجلسات فبرز:
موضوع تحدي الإرهاب الذي تحالف مع التطرف والطائفية لينتج صراعات داخلية، اكتوت بنارها العديد من الدول العربية. وضرورة التصدي لمحاولات إيران العدائية الرامية إلى زعزعة الأمن وبث النعرات الطائفية في المنطقة. وأهمية تكاتف الجهود العربية لإنهاء سفك الدماء في سوريا.
وتعزيز العمل العربي المشترك المبني على منهجية واضحة وأسس متينة تحمي الأمة العربية. وأنه بين أولويات الأمن القومي العربي إعادة توصيف المخاطر الإقليمية المحدقة. وأن التهديدات التي تواجه دول المنطقة تتساوى في أهميتها وتتطابق في خطورتها.
وأن الاعتماد على القوى الخارجية لن يحقق أمناً ولن يضمن استقراراً. وأنه لا بديل عن بناء القوة الذاتية، والحفاظ على الدولة الوطنية، وبناء الجسور لتعاون عربي مشترك يتصدى للمخاطر.
طهران أعلنت باكرا موقفها "هذه المؤتمرات لا قيمة لها وهي فاقدة للمصداقية من الناحية السياسية والدولية". فجاءها الجواب السريع ومن العيار الثقيل أنها "أصل البلاء" في الكثير من أزمات ومصائب المنطقة، وأن تستعد لاستراتيجية الرد على محاولات تغيير التوازنات الإقليمية على حساب العالم العربي.
التحركات السعودية الاستراتيجية قبل الدعوة للقمة تعكس حجم إصرار الرياض على التحرك باتجاهين: إفشال خطط إضعاف موقع ودور الدائرة العربية على مستوى المنطقة والعالم، ثم الإصرار على التحرك باتجاه بناء منظومة علاقات عربية عربية وعربية إسلامية وعربية غربية، تأخذ بعين الاعتبار الثقل والنفوذ العربي. التصعيد الإيراني في الأشهر الأخيرة ضد دول الخليج وتحريك الورقة الحوثية على هذا النحو المكشوف مؤشر على اكتشاف طهران أنها ستحصد ما زرعته إقليمياً من خطط ومشاريع تفرقة وشرذمة عرقية ومذهبية.
قد يبدو للبعض أن الملفات الحاضرة في القمة هي نفسها التي تتكرر منذ أعوام، لكن اللافت هذه المرة كان طريقة الطرح وتحديد المواقف والرؤى من هذه القضايا. قمة الظهران العربية تختلف عن القمم العربية السابقة في أنها لم تغفل أولويات الدول العربية وملفاتها الإقليمية الساخنة، لكنها حملت الكثير من الجديد في الطرح والنقاش.
الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية السفير حسام زكي يقول إن القمة العربية الـ٢٩ التي استضافتها المملكة العربية السعودية "حققت أهدافها في وضع الموقف العربي أمام العالم في الشكل المطلوب"، لكن الأمير خالد الفيصل رئيس مؤسسة الفكر العربي أكد خلال "منتدى فكر 16" في دبي قبل أسبوع، أنه منذ الحرب العالمية الثانية والدول العربية تُقَسَّم وتُحْكَم من قِبل الآخرين، وأن الوعي والفكر لدى الإنسان العربي بدآ يتغيران من التبعية إلى التفكير.
...
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة