ارتبطت القمة العربية في جدة، بسلسلة من اللقاءات التشاورية المسبقة بين القادة العرب، لا سيما: قمة العلا 2021، ولقاء مدينة العلمين 2022، وقمة أبوظبي 2023، والعديد من اللقاءات على المستوى الثنائي والثلاثي وأكثر،
تستهدف ترميم البيت العربي، وتخفيف حدة التوترات والوصول للسلام الإقليمي.
سادت القمة أجواء المصالحة، وعودة سوريا لمقعدها في الجامعة العربية، في تغيير جيوسياسي بارز، بعد سنوات الربيع العربي التي لا نزال نعيش تداعياتها السلبية، والمتراكمة على المنطقة العربية، وأدت إلى تراجع الدور العربي على الصعيدين الإقليمي والدولي في العقد الماضي.
سيعطي المناخ العربي الجديد الحافز اللازم لتطوير آليات الجامعة العربية، بداية من حل الأزمات العربية في البيت العربي لتفادي تعقيدها، وترميم تأثيرات سنوات العشرية السوداء، والتركيز على المستقبل من خلال إعادة التموضع، وفرض الدول العربية المحورية نفسها، كدول فاعلة في مسرح الأحداث العالمي.
في ظل تحديات عالمية متسارعة نعيشها على إثر تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، وتبلور عالم جديد متعدد الأقطاب، لن تكون واشنطن كقائدة للغرب، هي المتحكمة بالعالم وحسب، مع صعود اقتصادات قوية، مثل الهند وكوريا الجنوبية واليابان، والبرازيل وجنوب أفريقيا، وتكتلات تقودها الصين ومن خلفها روسيا، ومجموعات مثل "بريكس" و"منظمة شانغهاي"، تسعى للاستقلال عن الدولار الأمريكي.
اتجهت المنطقة العربية إلى أجواء التهدئة، لقناعتها أن المستفيد من الصراعات، هي جماعات الإسلام السياسي، والمليشيات الإرهابية المتطرفة، ما جعل فاتورة التكلفة على الداعمين باهظة دون جدوى، غير جعل أمراء الحروب والأزمات أكثر ثراء، وأن عوائد الاستقرار الإقليمي، التي تقود توجهه دول الاعتدال العربي أكبر بكثير، وستعود للمنطقة بالتنمية والتقدم.
كان لضبابية السياسة الأمريكية، وتركها فراغا أمنيًا واسعا الأثر الكبير، ما جعل القادة العرب يعيدون ترتيب حسابات العلاقات مع الدول الكبرى، فالمصلحة العليا تقتضي البقاء على نقطة محايدة من كافة النزاعات، وهو ما ذكرته في مقالي بتاريخ 08 يوليو/تموز 2022، بعنوان: "ترميم العلاقات العربية الأمريكية وضبابية الاتفاق النووي"- جاء فيه: "تحاول واشنطن الإبقاء على أقل تقدير من المناخ الضبابي، واحتواء الموقف مع الحفاظ على التهدئة في المنطقة، والعمل على مبدأ خفض التصعيد، في الوقت الذي برزت فيه سياسة الواقعية العربية، والتي عملت دبلوماسيا بشكل فعال لتشكيل تكتلات إقليمية لمواجهة تحديات المنطقة، ونجحت في إجبار واشنطن على تغيير منهجها مع حلفائها العرب".
أدرك القادة العرب ضرورة ترتيب شؤون المنطقة، والتحرك كمنطقة إقليمية فاعلة، في ظل تغيرات النظام الدولي، ما يتطلب وجود تكامل سياسي واقتصادي وأمني، قادر على مواجهة التحديات، فالواقعية تتطلب إدراك المصالح الوطنية لكل دولة، والتركيز على المشتركات، وترك الخلافات.
تميزت القمة بحضور الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وبحضور حليف مهم لروسيا، وهو الرئيس السوري بشار الأسد، ما يعكس سياسة عربية تمد جسور التعاون والحوار للجميع، وهي سياسة تنتهجها أبوظبي والرياض تحديدا منذ سنوات، مع واشنطن وموسكو وبكين، وأثبتت نجاحها خلال الأزمة الأوكرانية، عبر البقاء على الحياد من كافة أطراف الصراع.
لعبت واقعية دول الاعتدال العربي دورا مهما في نهجها سياسة تصفير المشكلات، ليتكون إطار أمني إقليمي جديد، مبني على التعاون السياسي والاقتصادي بين دول المنطقة، في ظل تراجع واضح لنفوذ الولايات المتحدة الأمني في الشرق الأوسط، وانتقال الصراع بين الشرق والغرب إلى مناطق النفوذ في العالم.
ستنتقل مخرجات قمة جدة لأجندات اللقاءات التشاورية العربية المقبلة، وآليات الجامعة العربية، وسيتطلع المواطن العربي لتحقيق نتائج ملموسة، بداية من إيقاف الحرب في السودان، التي كلما طال الحل بها، سيكون مصيرها أزمة إنسانية هائلة، ما يتطلب معالجتها بأسرع وقت ممكن في البيت العربي، ولعله أهم اختبار للأجواء الإيجابية التي صاحبت القمة العربية، وإن كانت كفيلة بإطفاء نار الفتنة بين جنرالي المكون العسكري في السودان.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة