عباس محمود العقاد يبرز مآثر "العربية" في كتابه "لغتنا الشاعرة"
العقاد يرصد في كتابه "لغتنا الشاعرة" مآثر "لغة الضاد" ومميزاتها عن سائر اللغات، ويرد على مزاعم المستشرقين المشككين في جماليات "العربية"
احتفى الأديب والمفكر المصري الراحل عباس محمود العقاد، باللغة الأم وخصص إحدى مؤلفاته عنها؛ متحدثا عن تفردها بين لغات العالم، ومبينا مناطق تميزها واختلافها عن غيرها.
"العربية"، كما وصفها العقاد في مؤلفه "اللغة الشاعرة"، هي "لغة ثرية بمفرداتها الفصيحة الصريحة التي تحمل بداخلها موسيقى خفية، فنجد أن الشعر العربي (ديوان العرب وتاريخ أحوالهم) المنظوم من تلك المفردات، منفرد باجتماع القافية والإيقاع والأوزان القياسية في آنٍ واحد".
وقال الأديب الراحل، عن لغته الأم، إنها "لغة شاعرة ذات موسيقى، مقبولة في السمع يستريح إليها السامع، كما تمتاز عن سائر اللغات بحروف تفي بكل المخارج الصوتية وتستخدم جهاز النطق أحسن استخدام، فتنفرد بحروف لا نجدها في أبجدية سواها مثل: "الذال والضاد والظاء والقاف".
عبر صفحات "اللغة الشاعرة" يصحبنا العقاد في رحلة فنية سريعة، تُمتع الأنظار والأفهام بجماليات لغة القرآن، مناقشا المستشرقين المشككين في جماليات هذه اللغة وعلو شأنها، متبعا أسلوبه العلمي الرصين ومسلحا باطلاعه العميق على علوم اللغة.
ورأى العقاد أن "العربية" تتميز بوضوح أزمنتها وعدم اللبس فيها: "اللغة الشاعرة، لغة بنيت على نسق الشعر في أصوله الفنية والموسيقية، فهي في جملتها فن منظوم منسق الأوزان والأصوات، لا تنفصل عن الشعر في كلام تألفت منه، ولو لم يكن من كلام الشعراء".
حروف "لغة الضاد" ليست أوفر عددا من بعض الأبجديات الأخرى، مثل الهندية الجرمانية، واللغات الطورانية والسامية، إذ أن اللغة الروسية يبلغ عدد حروفها 35 حرفا، وقد تزيد ببعض الحروف المستعارة من الأعلام الأجنبية عنها، لكنها على هذه الزيادة في حروفها لا تبلغ مبلغ اللغة العربية في الوفاء بالمخارج الصوتية على تقسيماتها الموسيقية؛ لأن كثيرا من هذه الحروف الزائدة حركات مختلفة لحرف واحد، أو هو حرف واحد من مخرج صوتي واحد، تتغير قوة الضغط عليه كما تتغير قوة الضغط في الآلات، دون أن يستدعي ذلك التفنن في تخريج الصوت الناطق من الأجهزة الصوتية في الإنسان.
وعن هذه الجزئية قال العقاد في كتابه: "تظل اللغة العربية بعد ذلك أوفر عددا في أصوات المخارج التي لا تلتبس، ولا تتكرر، فليس هناك مخرج صوتي واحد ناقص في الحروف العربية، وإنما تعتمد هذه اللغة على تقسيم الحروف على حسب موقعها من أجهزة النطق، ولا تحتاج إلى تقسيمها باختلاف الضغط على المخرج الواحد، كما يحدث في الباء الخفيفة والباء الثقيلة التي تميز بـ3 نقط من تحتها بدلا من النقطة الواحدة، أو كما يحدث في الفاء ذات النقطة الواحدة والفاء ذات النقط الثلاث (V)، أو كما يحدث في الجيم المعطشة وغيرها".
وناقش الكتاب قيمة اللغة العربية في حروفها ومفرداتها وحتى إعرابها، وقال الكاتب الراحل موجزا جماليات اللغة العربية: "لا حاجة إلى الكلمات لفهم معنى الصوت الذي ينبعث من بعيد للاستغاثة وإعلان الخطر والفزع، ولا حاجة إلى الكلمات لفهم معاني الأصوات التي يرسلها الصائحون على البعد أو على القرب للتهليل والاستبشار، وإعلان الفرح والابتهاج، ولا حاجة إلى الكلمات لفهم معنى الأنين على ملامح المبتئس الكئيب، الذي يكاد لا يبني من الضعف والخوف، أو معنى الرجاء والتوسل بما يشبه الآهات وحروف التنبيه، والإشارة التي لم تبلغ بعد مبلغ الكلم المفهوم".
وأضاف: "يرى أناس من مؤرخي اللغات أن الإعراب في اللغة العربية أثر من آثار استخدام الحركة في التعبير عن المعنى، وأن اللغة العربية تفردت بين لغات العالم بهذه الخاصة الفنية مع شيوع أنواع من الإعراب في بعض اللغات الهندية الجرمانية، كاللاتينية وبعض اللغات السامية كالعبرية والحبشية، وبعض اللغات القديمة المهجورة كاللغة المصرية على عهد الفراعنة. إلا أن الإعراب (العربي) وافٍ مقرر القواعد يعم أقسام الكلام أفعالا وأسماء وحروفا، حيثما وقعت بمعانيها من الجمل والعبارات".
واستطرد: "لا يزيد الإعراب في اللغات الأخرى على إلحاق طائفة من الأسماء والأفعال بعلامات الجمع والإفراد، أو علامات التذكير والتأنيث، وما زاد على ذلك فهو مقصور على مواضع محدودة، ولا يصاحب كل كلمة ولا كل عبارة كما يصاحب الكلمات العربية، حيثما وقعت من عباراتها المفيدة. وهذا الإعراب المفصل في هذه اللغة الشاعرة هو آية السليقة الفنية في التراكيب العربية المفيدة، توافرت لها جمل مفهومة بعد أن توافرت لها حروف تجمع مخارج النطق الإنساني على أفصحها وأوفاها، وبعد أن توافرت لها مفردات ترتبط فيها المعاني بضوابط الحركات والأوزان".
وتناول العقاد، من خلال مؤلفه، مميزات العربية في علم العروض وقوافي الشعر ومقاييس الزمن في اللغة العربية، مختتما بتقصي أخطاء المستشرقين في نقد الشعر القديم، تاركا لنا ثروة معرفية بقيمة لغتنا العربية، إذ لا يزال هذا الكتاب نبراسا لكل عاشق للغة العربية.
aXA6IDMuMTM4LjE3NS4xNjYg جزيرة ام اند امز