فؤاد زكريا.. داعية التفكير العلمي
فؤاد زكريا مفكر عقلاني من طراز فريد تمكن من ترك بصمات غائرة في مسيرة الفكر العربي المعاصر
في مارس من العام 2010، توفي المفكر وأستاذ الفلسفة المصري د.فؤاد زكريا عن ثلاثة وثمانين عاما، وترك من المؤلفات والترجمات والأعمال العلمية والفكرية المرموقة ما يضعه في مصاف كبار المبدعين والمفكرين العرب في القرن العشرين.
في ذكراه السابعة، أعادت مكتبة الأسرة المصرية إصدار طبعة جديدة من كتابه المرجعي "التفكير العلمي"، الذي صدر في سلسلة عالم المعرفة الكويتية، للمرة الأولى عام 1978، ومنذ ذلك التاريخ لم يظهر كتاب عربي في موضوعه استطاع أن يزاحمه أو يزحزح من مكانته وقيمته الكبرى في الثقافة العربية المعاصرة.
فؤاد زكريا الذي احترف الفلسفة ودرسها في الجامعات المصرية والعربية لما يزيد على نصف القرن، مفكر عقلاني من طراز فريد، تمكن من ترك بصمات غائرة في مسيرة الفكر العربي خلال نصف القرن الأخير، وكان علما على مدرسة فلسفية عقلانية نقدية تعتمد النظر النقدي وفعل المساءلة في كل ما تتعرض له من مشكلات أو بحوث.
وكان ممن يؤمنون إيمانا جازما بسلطة العقل وحده في كل القضايا والمسائل التي يتناولها وإن صدمت جموع الناس وجلبت لصاحبها سخط الساخطين وغضب الغاضبين. كان على يقين لا يتزعزع بقدرة هذا العقل على فهم واستيعاب القوانين الطبيعية والاجتماعية التي يحيا في ظلها هذا العقل، ويمارس فعاليته ونفوذه، ومن ثم قدرته على السيطرة على العالم والتحرر من قيود الضرورة وانفساح المجال كي يبدع وينطلق إلى آفاق أرحب من الإبداع والتطلع إلى المستقبل دون قيود أو معوقات.
ومنذ أن حصل على درجة الماجستير عن أطروحته "النزعة الطبيعية عند نيتشه"، ودرجة الدكتوراه عن أطروحته المهمة "مشكلة الحقيقة" عام 1956، ظل فؤاد زكريا شديد العناية والانتقاء لما يكتب أو يترجم، وحتى في تعليقاته الثرية ومراجعاته النقدية العميقة لأعمال الآخرين، وهو يصدر في كل ما يكتب عن وعي شديد بافتقار الثقافة العربية والعقل العربي إلى "العقلانية النقدية" ومنهجية "التفكير العلمي" السليم.
عندما أصدر كتابه القيم "التفكير العلمي" عام 1978، ظل هذا الكتاب فريدا في بابه، ولم يكتب مثله في دقة التحليل وعمق التناول وبساطة العرض، وكذلك في كتابه الآخر الفذ عن الفيلسوف اليهودي "اسبينوزا" الذي نال عنه جائزة الدولة التشجيعية في مصر عام 1962، وظل هذا دأبه في كل ما كتب من بحوث ومؤلفات وكتب: "نظرية المعرفة والموقف الطبيعي للإنسان"، و"الإنسان والحضارة"، و"خطاب إلى العقل العربي"، و"آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة"، وغيرها من الأعمال والمؤلفات التي تشهد بأنه كان غزير المعرفة عميق التأمل ثاقب النظر، يتمتع بعقلية نقدية جبارة ومنهج صارم طبقه دائما ومارسه باستمرار، ما جعله أحد أهم المفكرين في العالم العربي.
وساهم فؤاد زكريا بجهد ثقافي رفيع من خلال ترؤسه لتحرير مجلتين دوريتين من أهم المجلات الفكرية والثقافية التي صدرت في القرن العشرين؛ وهما مجلتا (الفكر المعاصر)، و(تراث الإنسانية) اللتان كانتا تصدران في مصر في الستينيات والسبعينيات من القرن الفائت. بالإضافة إلى تأسيسه وعمله كمستشار لسلسلة (عالم المعرفة) الكويتية (كانت تصدر عن المجلس الوطني للفنون والآداب والعلوم) منذ يناير (كانون الثاني) 1978.
إضاءة تاريخية
في ديسمبر عام 1927، ولد د.فؤاد زكريا في مدينة بورسعيد، وتخرج في كلية الآداب جامعة القاهرة عام 1949، وحصل علي الماجستير عام 1952، ثم حصل على الدكتوراه بعد أربع سنوات من جامعة عين شمس، التي عمل أستاذا للفلسفة بها، وحاضر لطلاب جامعة القاهرة أيضا، لينتقل بعدها للعمل في جامعة الكويت. ولم يشغله عمله الأكاديمي من ترؤس تحرير مجلتي (الفكر المعاصر)، و(تراث الإنسانية) والمساهمة في دعم سلسلة إصدارات عالم المعرفة الثقافية، كمستشار لها.
تركزت أفكاره ورؤيته وكل كتاباته علي إبراز قيمة العقل الإنساني، والتفكير العلمي، وامتلك قدرة فذة علي التحليل والفهم بلغة بسيطة بعيدة عن التعقيد، وكتب وترجم عشرات الكتب منها: "نيتشه ونظرية المعرفة، والإنسان والحضارة، ومشكلات الفكر والثقافة، وجمهورية أفلاطون، والتفكير العلمي، وخطاب إلي العقل العربي، والحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية، والصحوة الإسلامية في ميزان العقل، ثم آفاق الفلسفة، والثقافة العربية وأزمة الخليج".
ومنذ اشتغاله بالفكر والفلسفة والثقافة كانت رسالته الوحيدة بل همه الوحيد هو إحياء العقل النقدي، واستقلال فكر الإنسان وعدم خضوعه لسلطة تحد أو تمنع انطلاقه في النقد والتفكير بحرية، ودائما ما كان يدعو لتأسيس "ثقافة مصرية وعربية" جديدة تهدف إلى تحديث المجتمع، بفهم جديد للواقع والتصدي لمصادرة حق النقد والتفكير والإبداع، مع تحرير العقل المصري والعربي من التعصب وإقصاء الآخر، مع عدم الالتزام بالأيدلوجيات والعقائد والمسلمات الفكرية، والرؤية الحادة التي تحاصر الفكر والتفكير، بمقولات ثابتة وجامدة، مع التمسك بالتفكير العلمي والمعرفة والتسلح بالنظرة العلمية في الأسلوب والتخطيط والعمل، باعتبار ذلك من ضروريات النهضة الحضارية.
ودائما ما كان يحذر في كتاباته من ازدواجية الفكر والوقوع في أسر الجمود والحنين إلى الماضي، وكان حريصا على التأكيد في حواراته ولقاءته جميعا على أهمية بناء العقول وإعادة تشكيلها، جازما أن ذلك لا يمكن أن يتم بقرار فوقي، بل بصناعة محيط ثقافي يسهم في خلق ثقافة تحترم العقل وحرية التفكير، والإرادة الحرة. وفي رؤية فلسفية لا تخلو من المعاني العميقة، مفرقا بين معرفة الطريق الذي سنسير فيه، والطريق الذي يجب أن نتجنبه أو نبتعد عنه، وعلينا أن نعرف الفرق أولا، ثم نختار أي طريق نسلك.
نذر فؤاد زكريا حياته كلها لهدف واحد نبيل هو احترام عقل الإنسان، وحقه في التفكير بحرية وبإرادة مستقلة، وظل مشروعه الثقافي والفكري ينطلق من أهمية احترام عقل الإنسان وتحريره من كل قيود مع حقه في النقد والرفض الحر لكل القوالب والمسلمات التي تنتقل عبر أجيال دون أي محاولات لغربلتها وفحصها والتعرف على أصولها وماهيتها، وكأنه بذلك قد وضع يده على مكمن الداء الذي أصاب العقل العربي، ومطلقا صرخاته التحذيرية من الانغلاق والجمود والانكفاء على الذات.