الانسداد التاريخي الذي يمنع العرب وكل الشعوب الإسلامية من الانطلاق
ثمة محاور وعناوين فرضت نفسها "في كتابي" أهل العقل، في كل لقاء مع عقل من هذه العقول كان الماضي حاضرا، كما هو في الذهنية العربية التي حولته إلى شبه مقدس، وتحول إلى سجن كبير دخلنا فيه بمحض إرادتنا، وأصبحنا نعيش كاملا في الماضي وبالماضي وغير حاضرين في الحاضر ومطروحين من المستقبل، تلك معادلة مؤلمة تؤدي إلى ما نحن فيه وعليه من تخلف وانحطاط ورجعية مقيتة.
الانسداد التاريخي، الذي يمنع العرب وكل الشعوب الإسلامية من الانطلاق، ينتج عن التناقض المطلق بين النص والواقع، بين النص وكل التطورات العلمية والسياسية والفلسفية التي ارتبطت بالأزمنة الحديثة
فما زلنا نعيش على وهم أننا خير أمة "وإن "السلف خير من الخلف" إننا صرنا ندور في فلك سؤال وهمي، وهو لماذا تقدم أجدادنا؟ وكان الأولى أن نتساءل كيف نتقدم نحن؟ وكيف يصبح المستقبل لنا؟
لقد تعاملنا طوال الوقت مع مفكري الماضي البعيد على أننا مريدون لا تلاميذ والفرق بينهما كبير، فالتلميذ يتفوق على أستاذه، والدليل هناك الطبيب وهناك العالم وهناك الحاكم وكلهم تفوقوا على أساتذتهم.
أما المريد فهو مستسلم منقاد وتابع دائما، غير قادر على طرح السئؤال الذي على أساسه يخرج التعريف الحقيقي له، فالإنسان كائن متساءل، فكما يبين أفلاطون من خلال شخصية سقراط أنه من خلال طرح السؤال ينتقل من مقام الجهل إلى مقام الوعي ومن مقام الترقي إلى مقام التلقي".
من النقل العقيم إلى الإبداع والتجديد والخلق، جان بول سارتر يقول "الإنسان الغارق في الحاضر الذي يعيشه لا يقلقه الماضي، الماضي عدم لكن النقطة العبقرية في تفسير لماذا يحب العرب الماضي؟ لماذا يغرقون فيه؟ لماذا يبتعدون عن المستقبل؟
لأن الماضي ليس فيه غموض، لا يحمل أسئلة بقدر ما يقدم إيجابات؟ ليس فيه مغامرة، فكل الأمم عرفت متى بدأت وعرف كيف انتهت.
لا شيء مفتوح النهاية.
أما المستقبل فيحتاج إلى المغامرة، فأنت واقف على باب الغموض لا تعرف عن الغد شيئا سوى أنه لم يأتِ بعد.
المستقبل يحبه المغامرون والماضي يحبه المستسلمون والمنقادون التابعون.
إن العتبة المهمة التي ذكرها د.عبدالقادر بوعرفه "المفكر الجزائري الكبير في كتابه "العرب-أسئلة الماضي-الحاضر-المستقبل" يقول "كان يجب عند استحضار الشخصيات التاريخية مثل ابن رشد والغزالي والكندي وغيرهم نستحضرهم لنتعلم منهم كيف نفكر، لا لأن نتركهم يفكرون لنا.
وكما يرى حسن حنفي "في مشروعه المتعلق بالتراث بأنه يطرح المصالحة مع التراث" فهو يراه وسيلة لا غاية، يقول نريد أن نفكر من خلاله لا أن نجلعه فكرا لنا".
فأزمتنا أن كل مفكر حاول أن يفرض نمطا من العقلانية باعتبارها نسقا للتفكير، وسعى بكل جهد لفرضها على العقل العربي وفي النهاية وجدنا أنفسنا أمام عقلانيات متضادة لذلك، فشلت هذه العقلانيات في عمل قطيعة مع الخرافة اللامعقول والعرف.
روشتة الخلاص:
عدت في كتابي "أهل العقل" مرارا إلى فكر "المفكر الكبير" هاشم صالح، هذه المرة عبر عتبة هذا السؤال "كيف يمكن تحرير الروح العربية الإسلامية من تخلفها؟".
هو يرى "أن كبار مفكري المسيحية الأوروبية كانوا تلامذة لفلاسفة المسلمين الكبار، كالقديس توما الإكويني، هؤلاء لم يستطيعوا التوصل إلى الفلسفة اليونانية إلا بفضل ابن رشد وابن سينا والفارابي وابن باجه".
يرى هاشم صالح "أن الروح العربية تقيدت وانغلقت على ذاتها منذ انهيار الحضارة العباسية والأندلسية، مؤكدا أنه لا مفر من تحرير الروح الداخلي، قبل أي تحرير اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي، معتبرا أن أعلى درجات الغياب والاستلاب والأسر عندما يكون المقيد لا يشعر أبدا بأنه مقيد، بل على العكس من ذلك يعتبر نفسه حرا، ويستغرب من طرح مشكلة هو لا يراها موجودة، والسبب في تلك الحالة العجيبة أن غياب الحرية عن الساحة الثقافية العربية الإسلامية طال قرونا عديدة متواصلة لدرجة أصبح معها العربي المسلم ينكر أهمية وجودها ويتهم الذين يريدون إعادتها بشتى أنواع التهم، وأنهم يتآمرون عليه وعلى تراثه.
الحرية التي يفتقدها المجال العربي هي التي صنعت مجدا وحضارة وتفوق أوروبا، فحرية الروح وتحريرها من أصفاد وسجون اللاهوتية منذ القرن السادس عشر أنعشت كل الفنون والعلوم والآداب، ووفرت البيئة الخصبة لظهور أمثال نيوتن وأينشتاين، كما تجدد فهم الأوروبيين للدين وانقلب رأسا على عقب واختلف إيمان ما بعد التنوير عما قبله، فتوثقت علاقته بالجوهر لا القشور، حيث الأسئلة الميتافيزيقية الكبرى التي تطرح على الوجود البشري، وبدأت أوروبا عصرا جديدا، عصر المصالحة بين الفكر الديني والفكر العلمي، بين اللاهوت والفلسفة.
في هذا السياق، هاجم الكاتب القومية العربية معتبرا أنها فشلت فشلا ذريعا في عملية تحرير الإنسان العربي؛ لأنها فرضت نفسها بشكل قسري على الشعوب، ولأنها كانت مُفرغة من أي فلسفة إنسانية ومن أي احترام للأقوام الأخرى كالأكراد والأمازيغ والأرمن. فهي -أي القومية- بجانب الخطابات الأيديولوجية الأخرى التي سيطرت ولا تزال على العقل العربي سواء الماركسية أو الإسلامية، كلها تنتمي لنفس المنظومة الفكرية رغم كل الخلافات الظاهرية بينها؛ لأنها تشترك في صفتين: ضمور الحس التاريخي من ناحية، واحتقارها الكلي لمفهوم الحقيقة من ناحية أخرى.
وبذلك يستبعد الكاتب أي تحرير حقيقي على يد تلك الأيديولوجيات والخطابات؛ لأن الخطاب الفكري المنوط بعملية مواجهة الانسداد التاريخي يجب أن يكون على درجة عالية من الحس والوعي التاريخي بموازين القوى العالمية، والاعتراف بالحقيقة، ومواجهة الذات والتراث مواجهة حقيقية. لذلك فأي محاولة لفرض التنوير بالقوة ودون مواجهة حقيقية مع التأويل القديم وتوفير الشروط اللازمة لعملية النجاح ستفشل في خلق واقع جديد مقبول.
ولأن صالح يرى أن الانسداد التاريخي في العالم العربي ناتج عن هيمنة مجموعة من اليقينيات المطلقة التي لا تقبل النقاش وتحظى بمرتبة القداسة وتقدم الحماية المعنوية والإلهية للظلام السائد، بينما هي مجرد أفكار بشرية تقدم نفسها في صورة إلهية معصومة، فهو يعتقد أن تحرير الوعي العربي يبدأ من كشف زيف هذه اليقينيات، التي شرب العرب عصمتها مع حليف الطفولة، ذلك سيفتح ولو ثغرة في جدار التاريخ المسدود.
فالانسداد التاريخي، الذي يمنع العرب وكل الشعوب الإسلامية من الانطلاق، ينتج عن التناقض المطلق بين النص والواقع، بين النص وكل التطورات العلمية والسياسية والفلسفية التي ارتبطت بالأزمنة الحديثة، فالالتزام بحرفية النص يؤدي بالمسلم إما إلى إنكار الحداثة وإعلان الحرب عليها وإما إنكار النص ومن ثم الشعور بالذنب والخطيئة.
والحل الذي يطرحه الكاتب لتفادي هذا أو ذاك هو التأويل المجازي للنص والاعتراف بالمشروطية التاريخية له كما فعل المسيحيون في أوروبا بعد التنوير. فكل ما جاء في النص عن خلق العالم والإنسان وتشكل الظواهر الطبيعية من أمطار ورعد لا ينبغي أن يؤخذ حرفيا ولكن مجازا؛ لأنه يتناقض كليا مع الحقائق العلمية والقوانين الفيزيائية التي توصلت إليها العلوم الطبيعية الحديثة.
كذلك التشريعات والحدود الواردة في النص كقطع الأيدي والأرجل والجلد والرجم و«للذكر مثل حظ الأنثيين»؛ كل ذلك مضاد لحقوق الإنسان التي أقرتها شرائع الحضارة الحديثة. لن يصبح ذلك ممكنا بدون الاعتراف بالبعد التاريخي للنص، أي بمشروطيته التاريخية زمانا بالقرن السابع الميلادي ومكانا بشبه الجزيرة العربية، ثم البيئة السورية والعراقية في القرون الثلاثة الهجرية الأولى؛ حيث تبلورت الشريعة أو الفقه القديم الذي يعتقد المسلمون أنه كله منزل من السماء، في حين أنه من صنع البشر ومشروط بعصره.
يدافع هاشم صالح عن تصوره مؤكدا أن الاعتراف بتاريخية النص لا يعني إنكار تعاليه أو استلهامه الرباني قيميا وروحيا، وإنما يعني التفريق بين ما هو عرضي وما هو دائم، فالأحكام والحدود تاريخية مرتبطة بعصره.
في المحصلة النهائية لهذا المشروع الكبير "أهل العقل"، الذي اشتغلت عليه ما يقارب أربعة أعوام ، تأكد لي التالي:
أولا في عالمنا العربي والإسلامي تنويريون لكن ليس لدينا تنوير.
في عالمنا العربي والإسلامي مفكرون لكن ليس لدينا فكر.
في عالمنا العربي موجات متقطعة من الوعي والتنوير وليس لدينا استدامة لا في الفكر ولا في الوعي، وكل موجة كانت محكومة بقطيعة تطول ولا تقصر.
وهنا أسئلة كثيرة ما الذي يحول دون أن تتحول مشاريع المفكرين العرب والتنويرين العرب إلى مشاريع من لحم ودم تدخل إلى البيوت وإلى العقول؟
خلصت إلى أننا مام ثلاث معضلات أو معطلات.
الأول رجعية الفقه الديني المنغلق على نفسها
الثاني سلطوية السياسة المعادية للفكر والوعي
الثالث رأسمالي جشع عمل على تحويل القيم ومنها الفكر إلى مجرد سلع
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة