قد يتلاشى هذا النجاح بمجرد أن يتغلب حزب العمال والديمقراطيون الليبراليون على صدمة تفصيلهم الانتخابي
لم يكون دخول المملكة المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي عام ١٩٧٣ معبدا، وكذلك كان خروجها منه في ٣١ يناير ٢٠٢٠ سهلا، وفي الحالتين كان التردد طويلا، والانقسام كبيرا. وما بين هذا التاريخ وذاك لم تكن بريطانيا أبدا واثقة من سلامة الخطوة، ولا مطمئنة لوعورة الطريق. فيقال دائما إن الدول وليدة موقعها الذي يحدد تاريخها الذي ينبع من الجغرافية السياسية لها. شاع أن تشارلز ديجول رئيس الجمهورية الفرنسية الأشهر أنه كان يسأل محادثيه أيا كان الموضوع الذي يتحدثون فيه أن يرونه مكان ما يذكرون على الخريطة.
قد يتلاشى هذا النجاح بمجرد أن يتغلب حزب العمال والديمقراطيون الليبراليون على صدمة تفصيلهم الانتخابي ويستقروا على قادة جدد، لكن قد يؤدي أيضا إلى إعادة تنظيم سياسي دائم حول الانقسامات الثقافية العميقة بين الشباب والكبار وبين الشمال والجنوب
وبريطانيا في الأول والخارج كانت ولا تزال جزيرة على هامش الشمال الغربي للقارة الأوروبية فوق القناة الإنجليزية بين فرنسا وإنجلترا. الإطلال على القارة كان دائما قلقا وغير مطمئن، وفي العصور القديمة فإن الخوف كان يأتي ممن يكون طامحا للسيطرة على القارة، فإذا فعل فإنه على الأغلب سوف يطمع في بريطانيا أيضا. نابليون بونابرت وضع خططا كثيرة لكي يغزو الجزيرة البريطانية، ولكنه لم يشرع في الغزو إلا بعد أن يستولي على القارة حتى عبرها ووصل إلى موسكو في أقصى الشرق وهناك كانت هزيمته الكبرى التي عاد بعدها ليجد التحالف الذي تقوده بريطانيا لتكون هزيمته. هتلر تصور أنه يمكنه غزو الجزيرة بضربات جوية متلاحقة، وبعد فشله توجه شرقا إلى موسكو والتي عاد منها كما عاد من قبل سابقه الفرنسي، وكانت الولايات المتحدة وبريطانيا في انتظاره هذه المرة أيضا بفتح الجبهة الثانية التي انتهي القتال فيها بسقوط برلين. ومرة أخرى فإن "التحالف الأطلنطي" الذي ربط بين لندن وواشنطن هو الذي لم ينقذ أوروبا فقط، وإنما وقف أمام الاتحاد السوفيتي في حرب باردة استمرت عقودا. وبعد الحرب العالمية الثانية، ومع ارتفاع صيحات الوحدة الأوروبية لعلها تقي شر الاعتماد على الولايات المتحدة، أو شرور المواجهة مع الاتحاد السوفيتي الذي يحمل تحت الراية الشيوعية كانت تقاليد روسيا القيصرية في التوسع البري قائمة وراسخة.
لم يكن سهلا في مطلع الخمسينيات من القرن العشرين، وونستون تشرشل هو رئيس وزراء بريطانيا المحافظ أن يقبل بما يراه أحلاما خرقاء تحاول أن تبني تجمعا للحديد والصلب يكون نواة لوحدة ومنعا لحرب عالمية ثالثة. كانت المملكة المتحدة -الجزيرة- لها رسالة واضحة وهي أنها تقيم التوازن في أوروبا في العصور القديمة بالتدخل لصالح الأضعف في مواجهات القارة بين الإمبراطوريات الكبرى. وبعد الحرب الثانية لم يكن في الخيال أن يحل أمر أوروبي محل التحالف الأطلنطي الذي أثبت خلال حربين عالميتين أنه المنقذ للقارة العجوز. خرج تشرشل ومعه خرجت الإمبراطورية البريطانية، وبات عليها تدريجيا أن تصفي نفسها وتتراجع بين القوى السياسية في العالم، ولم تفلح حماقة حرب السريس في استعادة ما فقد، وبات على لندن أن تبحث عن استراتيجية للتخلص من توابعها "شرق السويس". وعندما جاءت حرب فيتنام بات الحليف الأمريكي واقعا في كثير من المتاعب، بينما الأوروبيون يسيرون خطوة بعد خطوة على طريق التكامل والوحدة من الحديد والصلب إلى الطاقة النووية إلى السوق المشتركة. كان مولد أوروبا طموحا لإعادة شباب القارة العجوز من ناحية، ونبتة أولى للعولمة وهندسة بناء كيانات سياسية جديدة، كبيرة وعفية، وليست إمبراطورية في نفس الوقت، كانت أوروبا هي البشارة الأولى للعولمة التي تتخطى حواجز الحدود بالتجارة والتفاعل والتكنولوجيا. أصبحت بريطانيا جاهزة لدخول "التجمع الأوروبي"، ولكنها بعد أن دخلت باتت مترددة إزاء كل الخطوات التي تدعم الوحدة الأوروبية، فوقفت بعيدا عندما اتفقت الدول الأعضاء على أن يكون الدخول إلى السوق السياسية والاقتصادية الأوروبية من خلال "فيزا" واحدة عرفت بالشنجين. ومرة أخرى لم تكن لبريطانيا أن تتحمل اختفاء عملتها "الإسترلينية" وعليها الملكة وتاجها لصالح عملة جديدة ليس لها لا أصول ولا تاريخ مثل "اليورو". لم تكن بريطانيا تريد "تعميق" الاتحاد الأوروبي، ولكنها كانت تريد "توسيعه"، بضم دول أوروبا الشرقية إلى الاتحاد لضمان أنها لن تعود إلى حضن روسيا مرة أخرى، ولكن الثمن كان عاليا لإنعاش هذه الدول، وعندما زاد الثمن بأزمات وحروب الشرق الأوسط المتعددة وحلت شحنات جديدة من اللاجئين بكل ما ارتبط بهم من التزامات من قبل "الاتحاد الأوروبي" وجد قطاع كبير من الشعب البريطاني أن هناك حاجة إلى الرحيل.
وفي ليلة 31 يناير المنصرم مع ضجة صغيرة كان فيها من حزنوا للخروج ومن فرحوا به، غادرت المملكة المتحدة رسميا الاتحاد الأوروبي بعد ما يقرب من 50 عاما من العضوية، وثلاث سنوات من الانقسام المرير حول التصويت على الرحيل، وكان ذلك بكل المعايير لحظة تاريخية. ولا تزال الحكومة البريطانية بحاجة إلى التفاوض بشأن شروط علاقاتها المستقبلية مع الاتحاد الأوروبي، وهي مهمة معقدة للغاية يشك الكثيرون في إمكانية إتمامها بحلول نهاية العام، عندما تلوح مهلة أخرى. في هذه الأثناء ستكون البلاد عالقة مع الاتحاد الأوروبي، وتكون ملزمة بقوانين الاتحاد وأنظمته، لكنها عاجزة عن تشكيلها. وهي فترة سوف تستخدمها بريطانيا لعقد اتفاقيات تجارة حرة مع دول العالم وبالذات مع التكتل الأنجلو فوني المكون من بريطانيا والولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلاند، وربما الهند أيضا. الفكرة أن تعود الإمبراطورية في شكل جديد يلائم العصر، ويكفل الازدهار بعد أن ذهبت تكاليف الاتحاد الأوروبي الباهظة. المتشائمون مثل ويليام كيجان، كاتب عمود في صحيفة The Guardian، يتوقعون حدوث كارثة اقتصادية على التصنيع والزراعة. ولا تزال الحقوق والوصول إلى المزايا الاجتماعية لـ 2.7 مليون من مواطني الاتحاد الأوروبي الذين تقدموا بطلبات للبقاء في المملكة المتحدة غير واضحة. لقد عبرت رئاسة الوزراء البريطانية عن عزمها على مغادرة الاتحاد الجمركي والسوق الموحدة للاتحاد الأوروبي، واستخدام هذه الحرية لإبرام صفقات تجارية جديدة، بما في ذلك مع الولايات المتحدة. في الوقت نفسه تأمل الحكومة في الحفاظ على سهولة الوصول إلى الأسواق عبر القناة من خلال "اتفاقية تعريفة صفرية، حصص صفرية" للتجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي.
وبالنسبة إلى لندن، فإن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سوف يتسبب في اضطراب مكلف في الاقتصاد البريطاني. فتكلفة الخروج والتزاماته سوف تكون أكثر من إجمالي مدفوعات المملكة المتحدة لميزانية الاتحاد الأوروبي على مدار 47 عاما من عضويتها. ومن غير المحتمل أن تعوض اتفاقيات التجارة التي سوف تعقدها بريطانيا فقدان الوصول غير المقيد إلى الأسواق لـ450 مليون شخص عبر القناة.
ولكن الواقع السياسي كان مختلفا عن التكلفة الاقتصادية فقد كانت هناك تحولات سياسية مهمة، ففي ديسمبر ٢٠١٩ أظهرت الانتخابات العامة في بريطانيا التحولات السياسية الهائلة التي أحدثها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. فقد انتصر "بوريس جونسون"، وفاز حزب المحافظين بأكبر أغلبية برلمانية منذ عام 1987 وحصل على أعلى نسبة تصويت منذ عام 1979. في ظل "كوربين" فاز حزب العمل في المقابل بأقل عدد من المقاعد منذ عام 1935 وعانى من هزيمته الرابعة على التوالي. عاد تشرشل مرة أخرى في ثياب جونسون رافعا شعار "Get Brexit done". وتتمتع حكومة المحافظين بأغلبية كبيرة واتفاقية انسحاب موقعة مع بروكسل وأحزاب المعارضة المعطلة والمشتتة من مسابقات القيادة الداخلية، وتتمتع بسلطة غير مقيدة إلى حد كبير في مجلس العموم البريطاني. قد يتلاشى هذا النجاح بمجرد أن يتغلب حزب العمال والديمقراطيون الليبراليون على صدمة تفصيلهم الانتخابي ويستقروا على قادة جدد، لكن قد يؤدي أيضا إلى إعادة تنظيم سياسي دائم حول الانقسامات الثقافية العميقة بين الشباب والكبار وبين الشمال والجنوب.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة