تمر الشعوب العربية بمرحلة دقيقة من تاريخها المعاصر، مرحلة يمكن تسميتها دون مبالغة بـ”المخاض الحضاري”.
إنها ليست مجرد أزمة سياسية عابرة، أو خلل اقتصادي مؤقت، بل أزمة أعمق من ذلك بكثير: أزمة فكر، وهوية، واتجاه.
بين الغرب والشرق… تشتت وجودي
لقد وقعت المجتمعات العربية في فخ التمزق بين قطبين حضاريين متناقضين: الغرب، بما يحمله من قوة مادية ومنظومة قيم حداثية، والشرق، بما يمثله من عمق روحي وإرث ثقافي متجذر. وبين الانبهار بالغرب والحنين إلى الشرق، وجد المواطن العربي نفسه ممزقًا، بلا بوصلة واضحة.
في استطلاع أجرته Pew Research Center عام 2019، أظهرت النتائج أن نسبة كبيرة من الشباب العربي ترى أن “التقاليد لم تعد كافية لمواجهة تحديات العصر”، وفي الوقت نفسه، يشعر أكثر من 60% بالقلق من “فقدان الهوية الثقافية بسبب العولمة الغربية”. هذا الصراع الداخلي يعبّر بدقة عن أزمة المعنى التي تعيشها أمتنا.
الغرب.. القوة المادية والنقمة المستترة
لا يمكن إنكار ما قدمه النموذج الغربي من تقدم علمي، تقني، واقتصادي. الأنظمة الغربية نجحت إلى حد بعيد في بناء مؤسسات فاعلة، وصيانة الحريات، وتحقيق معايير عالية من جودة الحياة. لكن علاقة العرب بالغرب لم تكن يومًا علاقة تبادل متكافئ، بل ارتبطت بالاستعمار، ثم الهيمنة الثقافية، فالتبعية الاقتصادية.
هذا ما يجعل الموقف من الغرب مزدوجًا: إعجاب صامت، ونقمة معلنة. نستهلك منتجاته، ونقتبس أنظمته، لكننا نُدينه في خطاباتنا السياسية والدينية. هنا تحديدًا تتجلى الأزمة: أزمة هوية بلا عمق فكري، ومواقف بلا اتساق.
الشرق.. الحنين للماضي دون مشروع مستقبلي
في مقابل ذلك، يبرز التعلق العاطفي بالنموذج الشرقي – سواء كان شرقًا دينيًا، أو حضاريًا، أو ثقافيًا. نتحدث عن “الأصالة”، و”العودة إلى الجذور”، لكننا نكتفي غالبًا بالشعارات دون امتلاك أدوات قراءة الموروث بمنطق العصر.
ولعل أحد أبرز الأمثلة هو استدعاء نماذج الخلافة أو الدولة الإسلامية التاريخية في سياقات سياسية معاصرة دون وعي بمتغيرات الزمان والإنسان. النتيجة؟ مشاريع إحيائية مشوهة، وأخرى طوباوية لا تملك القدرة على التفاعل مع الواقع المركب.
النخبة المثقفة… غياب الوسيط المتوازن
بين هذين القطبين، تاهت النخبة المثقفة. فبعضهم ارتمى كليًا في أحضان التغريب، رافعًا لواء القطيعة مع الماضي، ومتبنيًا كل ما يأتي من الغرب دون تمحيص. في المقابل، اكتفى البعض الآخر بنقد الحداثة من منابر الموعظة، دون امتلاك أدوات بناء مشروع بديل.
نفتقد اليوم المثقف الجسر، الذي يفكر بمنطق الحضارة، لا بمنطق الصدام. المثقف الذي لا يخجل من الاستفادة من منجزات الآخر، لكنه لا يذوب فيه.
طريق الخلاص: مراجعة الذات قبل محاكمة الآخر
لا سبيل للخروج من هذا المخاض إلا بمصالحة شجاعة مع الذات. نحتاج إلى مشروع نهضوي عربي يبدأ من الداخل، يعيد تعريف الهوية لا عبر الرفض أو التقليد، بل عبر الوعي والفعل. مشروع يؤسس لنهضة تقوم على العلم، والحوار، والاستقلال المعرفي.
إن النهضة ليست محاكاة سطحية لمظاهر الحداثة، ولا تجميدًا للزمن عند لحظة مثالية من الماضي. بل هي فعل نقديّ مستمر، وجرأة على مواجهة الذات قبل محاكمة الآخر.
خاتمة:
إن السؤال اليوم ليس “من نحن؟” بل “من نريد أن نكون؟”.
فالأمم التي لا تملك رؤية واضحة لنفسها، سيكتب الآخرون قصتها بالنيابة عنها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة