لا تكاد منطقة الشرق الأوسط تهدأ حتى تتوتر، لكن في العامين الأخيرين ارتفعت حدة التصعيد دون أفق للتهدئة المستدامة، بعدما تعددت الجبهات والفاعلون، وتناقضت الأهداف، وزادت المعاناة الإنسانية، وتأثرت الشعوب والاقتصادات.
وزادت حالة عدم اليقين، حتى جاءت الضربات الإسرائيلية الإيرانية، في 13 يونيو 2025، لتعلن مرحلة جديدة من التصعيد، ومنحنى هو الأشد عنفاً حتى الآن بين الجبهات المتباعدة على خريطة جغرافيا الشرق الأوسط.
ورغم أن المؤشرات كانت تتجه إلى احتمالات نشوب مواجهة بين إسرائيل وإيران، خاصة مع تواصل الحرب على غزة منذ 7 أكتوبر 2023، وإضعاف وكلاء إيران في المنطقة، والتقدم الإيراني في البرنامج النووي - حسب تل أبيب والوكالة الدولية للطاقة الذرية - والتفاوض النووي الأميركي-الإيراني تحت الضغط والتهديد بالحرب، لكن حجم التصعيد الإسرائيلي، وهجومها على منشآت نووية وعسكرية إيرانية، والرد الإيراني بعد مقتل قيادات عسكرية كبرى، ربما كانت المفاجأة. والرهان على أن الحرب التي بدأت لا تستمر طويلاً، لأن تواصلها يعني امتداد الحرب ربما إلى جبهات أخرى.
وكلما طال أمد الحرب واتسعت جغرافيتها، يُخشى من ارتفاع أصوات الطائرات والمسيّرات مقابل انخفاض صوت الدبلوماسية والسياسة، وتعطُّل جهود الاحتواء في منع امتداد التصعيد إلى المنطقة ككل، وبالتالي خيَّم التشاؤم على توقعات النمو، واتجهت الدول إلى سياسات حماية الاقتصادات من الصدمات حفاظاً على الاستقرار، وتأثرت السياحة والتجارة، وهنا لا نعني شمول التأثيرَيْن السياسي والاقتصادي على مناطق القتال والبلدان المجاورة فحسب، وإنما على المنطقة برمتها، بل ربما على العالم كله، إذا خرجت الأمور عن السيطرة، وهو احتمال من الصعب استبعاده. ولا يمكن استقرار أسواق الطاقة والأسواق المالية، في وضع مضطرب باستمرار كهذا الوضع، وخاصة إذا بات القتال عابراً للحدود والدول، وربما اطمأن البعض، في العامين الأخيرين، بأن الحرب على غزة ولبنان، والضربات الأميركية على اليمن، لم تؤثر اقتصادياً بشكل كبير، لكن مع استمرار الصراع بوتيرة الانتشار الحالية هذه، فإننا ذاهبون إلى اضطراب كبير في أسواق الطاقة، فضلاً عن الخسائر المادية والبشرية بالمنطقة.
ويبدو أن مستقبل منطقة الشرق الأوسط سيبقى رهينة مصير التسويات السياسية لملفات الصراعات بالمنطقة، وطبيعة الترتيبات الإقليمية والدولية لما بعد الحروب، وقدرة المنطقة على فرز نموذج تعاون أمني واقتصادي إقليمي يعمل على ازدهارها، لا تخريبها وتحويلها إلى ركام، وضياع ثروات الشعوب وتطويعها للحروب.
إن المنطقة لديها من الأزمات ما يكفي، والأَوْلى أن تنظر الدول إلى اقتصاداتها، وازدهار شعوبها، لا إلى الحروب، التي لن تحل أزمة، ولن تغلق ملفاً، بالأسلحة والمعدات العسكرية، خاصة أن أعداداً كبيرة من دول المنطقة لديها أزمات اقتصادية وسياسية وأمنية تحتاج إلى سنوات وسنوات من العمل لتخرج من تداعياتها، ولدينا دول طموحة تعمل من أجل ازدهار شعوبها والمنطقة برمتها، ولا تريد لعدم الاستقرار في المنطقة أن يحدَّ من آمالها في التقدم بالمجالات كافة.
إن المسألة الجيوسياسية تربك المنطقة، وتعطل مشروعات التنمية العابرة للحدود. والقوى الدولية يبدو أنها لا تتفاعل بإيجابية نحو الاستقرار والسلام في المنطقة، وهو ما يرجح أن كرة اللهب يمكنها الانتقال من دولة إلى أخرى، وما لا تَطاله اليوم فغداً ليس ببعيد، إذا استمرت ذات المعايير الدولية في التعامل مع أزمات الشرق الأوسط، خاصة أن القوى الدولية هي الأخرى تتناقض أهدافها في الشرق الأوسط، أو بالأحرى هي انعكاس آخر للتنافس الدولي.
ويؤشر الصراع الحالي على حدوث تغييرات جوهرية في ميزان القوة، خاصة إذا توسع نطاق المواجهة بين إيران وإسرائيل، أو صعَّدت إيران على أكثر من جبهة في المنطقة، وما يزيد الأمر سوءاً أن الاستسلام أو الحسم غير وارد، وحتى إن حُسمت جولة، فإنها لن تكون الجولة الأخيرة للصراع.
وبعيداً عن أسباب كل طرف في الصراع، فإن الانجرار إلى حرب إقليمية شاملة، أو الخلل الحاد في ميزان القوى الإقليمي لصالح طرف بعينه، لن يكون في صالح المنطقة ككل. إن الحرب في الشرق الأوسط بتمددها قد تؤدي إلى تفاقم عدم الاستقرار في الاقتصادَيْن الإقليمي والعالمي، وزيادة حالة عدم اليقين، والإضرار بالجهود الرامية إلى التنمية.
وعلى النقيض من ذلك، فإن السلام يمكّن شعوب المنطقة من الازدهار. ولا يكفي المنطقة للاستقرار وقفُ الحروب فقط، وإنما اتباع نهج جديد في حل الصراعات يقوم على التفاوض والسياسة.
* نقلا عن صحيفة الاتحاد
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة