الغطرسة، مصطلح مأخوذ أساسا من كلمة لاتينية قديمة تعني "الفخر أو العنجهية المتطرفة".
تتفق جميع القواميس السياسية على أن الغطرسة غالبا ما تشير إلى فقد التواصل مع الواقع، والمغالاة في تقدير كفاءات أو قدرات الشخص الخاصة، وتحديدا عندما يكون هذا الشخص الذي يعاني من هذه العادة صاحب سلطة.
في اليونان القديمة، كان مصطلح الغطرسة يشير إلى الإجراءات التي كانت تصيب الضحية بالخزي والإذلال لإمتاع أو إشباع رغبات الشخص المتعسِّف.
عرّف أرسطو الغطرسة بأنها "إذلال الضحية من أجل إشباع رغبات بعينها". تشير الغطرسة، في استخدامها الحديث، إلى الفخر والكبرياء الزائد عن الحد، وغالبًا ما تقترن بنقص التواضع، رغم أنها لا تقترن دائمًا بنقص المعرفة.
قدمت الدراسات والتحليلات السلوكية كثيرا من البراهين على أن الشخص المتغطرس يميل إلى التصرف بحماقة مناقضة للحس العام السليم، بمعنى آخر، يمكن التفكير في التعريف الحديث على أنه "الفخر الذي يسبق الانهيار مباشرة".
برزت خلال حقب التاريخ ومحطاته الحاسمة أسماء عديدة من الشخصيات التي وقعت ضحية لنزعة الغطرسة.
المؤرخ "إيان كيرشاو" يستحضر في ترجمته لأدولف هتلر التي وردت في مجلدين ، «الغطرسة» و«الانتقام» هذا المعنى الحديث للمفهوم، ويقدم شخصية الزعيم النازي كمثال على دور الغطرسة وتأثيرها على قراراته وقيادته للحرب العالمية الثانية، وتضخم نزعاته الاستعلائية البعيدة عن القراءات الموضوعية لواقع ومجريات الأحداث وللأعداء المفترضين من قبله.
اختار للمجلد الأول عنوان "الغطرسة: الحياة المبكرة لهتلر وارتقائه للسلطة"، أما المجلد الثاني فعنونه "الانتقام" ويعطي خلاله تفاصيل حول جوهر شخصية هتلر في الحرب العالمية الثانية وسيطرة نزعاته الذاتية السلطوية على تفاصيل قراراته، وصولا إلى انهياره وانتحاره في عام 1945، في حين يعتقد عالم السياسة الأمريكي ريتشارد نيد ليبو في كتابه "لماذا تتحارب الأمم؟ دوافع الحرب في الماضي والمستقبل" أن الحالة الشاذة الأبرز في هذا السياق كانت غزو هتلر لبولندا عام 1939 وغزواته اللاحقة على أوروبا الغربية والبلقان والاتحاد السوفياتي، ويقول "يعزو بعض العلماء إلى هتلر عددا من الدوافع اللا عقلانية، فقد كان عازما على فتح أوروبا ومن ثم العالم وإبادة بعض الأجناس البشرية، وهي أهداف غير عقلانية من الناحيتين الموضوعية والذرائعية؛ إن لم تكن مجنونة تماما" على حد تعبيره.
يعتقد نيد ليبو أن السعي إلى نيل الشرف والمكانة غالبا ما كان يتم على حساب مصالح الدولة، ويسوق أمثلة من التاريخ لشخصيات أخرى كانت على رأس السلطة أدى خضوعها لمؤثرات الغطرسة إلى هلاكها وهلاك دولها وممالكها، منها لويس الرابع عشر الذي رفض في فترة حروبه في القرن السابع عشر عروض السلام التي قدمتها الجمهورية الهولندية بعد حملته العسكرية الأولى على الرغم من أنه حقق أهدافه المعلنة.
يقول ليبو "بدافع من الغطرسة وسعيه الذي لا يشبع إلى الفخار، أصر لويس على غزو الجمهورية بأكملها، محولا الحرب إلى صراع طويل تدخلت فيه الدول الأوروبية الأخرى ضمن تحالف قوي ضد فرنسا.
وعلى الرغم من نصيحة مستشاريه الأكثر تعقلا، قام لويس مرارا وتكرارا ببدء مغامرات عسكرية لم يتمكن من إكمالها بنجاح، فاضطر للقبول بتسوية تحقق له مكاسب متواضعة في أوروبا وخسائر فادحة في الخارج".. ويقدم عالم السياسة الأمريكي نموذجا آخر لهيمنة نزعة الغطرسة الشخصية على مصالح الشعوب والدول ومنهم تشارلز الثاني عشر ملك السويد الذي رفض في عام 1714 سلاما معقولا بعد 14 عاما من الحرب على أساس أن "أفضل الأوقات لن يأتي حتى نحصل على قدر من الاحترام في أوروبا يزيد عما نمتلكه الآن"، ودفعته تلك النزعة خلال الحرب الشمالية الكبرى 1699 – 1721 التي انتهت بهزيمة كاملة للسويد، إلى غزو روسيا وقاد جيشه إلى موقف مكشوف في عمق ما يعرف الآن بأوكرانيا، حيث تعرض لهزيمة ساحقة في بولتافا.
شغلت نزعة الغطرسة علماء السياسة وعلماء الاجتماع المعاصرين نظرا لارتباطها الوثيق بشخصيات تقف على رأس السلطة بسياقاتها المختلفة، سياسية أو مجتمعية أو دينية أو ثقافية أو اقتصادية، ولكونها تتداخل سلوكيا بين الذات والموضوع، أي بين الشخص وبين موقعه في السلطة، وما يحمله ذلك التداخل من احتمالات متهورة قد تبرز خلال ممارسة السلطة سواء على المجتمعات المحلية، أو على نطاق خارجي أوسع.
في عام 2011، تم تأسيس صندوق علمي عالمي للتصدي لظاهرة الغطرسة واختير له اسم "دايدالوس" نسبة إلى المعماري والنحات الأسطوري اليوناني الذي أبدع متاهة عمرانية تلبية لرغبة الملك مينوس ملك كريت من أجل حبس الوحش "مينوتور" كما تقول الأسطورة الإغريقية، ولكنّ دايدالوس وجد نفسه وابنه حبيسين في المتاهة التي ابتكرها بأمر من الملك مينوس، بعد اتهامه بتسهيل هروب ابنة الملك مع الفارس ثيزوس الذي قتل الوحش مونيتور.
وفقا لعلماء الاجتماع السياسي المعاصرين فإن مسؤولية ومهمة صندوق دايدالوس المستحدث، تتلخص في العمل على زيادة الوعي والفهم "للتغييرات لدى القادة الأفراد الذين يمسكون بزمام السلطة، ولدى الجماعات والمنظمات في كل مناحي الحياة" بهدف توظيف المعارف المعاصرة في التعرف على التأثيرات الضارة التي يمكن أن تتسبب بها الغطرسة، أو التخفيف من حدتها، أو السيطرة عليها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة